كانت ثورة ٢٥ يناير بمثابة زلزال للنظام الاقتصادى السائد، حيث تراجعت استثمارات كبار رجال الأعمال وكذلك الاستثمار الأجنبى المباشر. وفى خضم ذلك كان على الحكومة الاستجابة للكثير من المطالب الفئوية مما زاد من عجز الموازنة. ومع انتخاب أول رئيس بعد الثورة٬ واجهت حكومة الدكتور قنديل وضعاً اقتصادياً معقداً وانتهجت سياسة تقشفية لا مفر منها٬ وإن اخلتفت الرؤية فى كيفية تطبيقها٬ لخفض عجز الموازنة والسيطرة على الدين الحكومى. واعتمدت تلك الحكومة على تحفيز القطاع الخاص لتدوير عجلة الاقتصاد٬ كما سعت للاتفاق مع صندوق النقد لاكتساب شهادة ثقة دولية تساعد على جذب الاستثمارت الأجنبية. كما ساعد الدعم الخارجى من قطر وتركيا وليبيا على منع سعر صرف الجنيه من الانهيار.
بعد ٣٠ يونيو٬ كان يفترض أن تقوم حكومة الدكتور الببلاوى بالاستمرار فى سياسة التقشف للسيطرة على العجز. لكن ما حدث هو عكس ذلك٬ حيث ساعدت المساعدت الخليجية السخية من السعودية والإمارات والكويت على انتهاج الحكومة لسياسية توسعية برفع الإنفاق الحكومى لإشعار الناس بالتحسن الاقتصادى. وكان لهذه المساعدات أثر كبير فى الدفاع عن سعر صرف الجنيه٬ لكن الكثير من هذه المساعدات تحولت لمشاريع حكومية تحفيزية وتم ترسيتها بالأمر المباشر للمؤسسة العسكرية فى إشارة واضحة لاعتلاء المؤسسة العسكرية عجلة قيادة الاقتصاد. وقد أثار ذلك التوجه الجديد جدلا بين المحللين٬ فمنهم من اعترض عليه واعتبره قتلا بطيئا للقطاع الخاص بينما رآه البعض الآخر ضرورة مرحلية لمساعدة الاقتصاد على التعافى. ولعل التصور المبنى على مشروعات كبيرة تمولها المساعدات الخليجية وتشرف عليها المؤسسة العسكرية كان التصور المعتمد عند الكثير من المحللين.
ومع وصول الرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى لسدة الحكم٬ انتظر الجميع التدفق الغزير للدعم الخليجى وإطلاق مشروعات قومية عملاقة كما نوه الرئيس قبل توليه السلطة. وتم بالفعل إطلاق مشروعات عملاقة كقناة السويس الجديدة لكن المليارات الخليجية لم تتدفق وكان على الحكومة اللجوء للتمويل المحلى وتم بالفعل جمع التمويل المطلوب فى وقت قياسى٬ لم يتوقعه حتى أكبر المتفائلين. لكن لم ينته الحديث عن الدعم الخليجى والذى ظل محور كلام الاقتصاديين لأنه ببساطة هو أنبوب الاكسجين للاقتصاد المختنق حتى إن شركات الاستشارات العالمية التى استعانت بها الحكومة أوضحت حاجة الاقتصاد لتدفقات نقدية خارجية من مساعدات واستثمارات بحوالى ١٢٠ مليار دولار خلال ٤ سنوات للخروج من الركود.
وبعد مرور ٦ أشهر على تنصيب الرئيس٬ نجد أن الدعم الخليجى أقل مما كان متوقعاً حيث اقتصر على منحة من الكويت بمليار دولار كوفاء بالتزام سابق وقرض ميسر من الإمارات لتوريد مواد بترولية بقرابة ٩ مليارات دولار. وهذا الدعم مهم لكنه محدود نسبياً. أما عن الاستثمارات المباشرة٬ فقد تم الإعلان عن مؤتمر اقتصادى لكن ظل المؤتمر يؤجل حتى وصل موعده للربيع القادم. وكان التصور السائد أن الإمارات ستغطى ما على مصر دفعه لقطر وكذلك لشركات البترول الأجنبية٬ لكن الواقع جاء مغايراً ولذلك ارتفع الدولار فى السوق الموازية مؤخراً وترسخت الصورة الذهنية الجديدة وهى أنه «علينا أن نعتمد على أنفسنا». وفى ضوء هذا التطور٬ يتبادر للذهن ثلاثة أسئلة رئيسية:
الأول: هل كان تراجع الدعم الخليجى مفاجئاً؟
الأمر لم يكن مفاجئاً بأى حال فمنذ خريف ٢٠١٣ توالت الرسائل والتصريحات على أن الدعم الخليجى لن يستمر وأن على مصر الاعتماد على نفسها لكن هذه التصريحات لم تؤخذ على محمل الجد.
الثانى: هل تراجع الدعم الخليجى سيؤدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادي؟
إزالة أنبوب الاكسجين قد يكون له آثار كبيرة على حياة المريض. فالسيطرة على عجز الموازنة ليس أمراً سهلاً وتصاعد العجز يؤدى إلى ارتفاع الدين الحكومى والذى ينتج عنه ارتفاع تكلفة الاقتراض وهو ما سيحتاج لبرنامج تقشفى قاس يزيد من حدة الركود. كما أن تراجع الدعم الخليجى واستمرار الاضطراب الأمنى وما يتبعه من تراجع للسياحة والاستثمارات الاجنبية سيؤدى بدوره لزيادة الضغط على الجنيه ويزيد من حدة التضخم. والركود التضخمى من أصعب الحالات الاقتصادية لكن لا ينبغى تهويله. فمصر ليست الدولة الأولى التى تمر بركود تضخمى وهناك العديد من الدول التى مرت بظروف أكثر قسوة من ذلك ثم عاودت النمو.
الثالث: ما هو المخرج من الوضع الحالى؟
روشتة العلاج ليست معقدة لكنها تحتاج للكثير من الواقعية والإرادة السياسية. ويمكن فى هذا الصدد تحديد عدة ملامح أساسية:
- بناء صورة أكثر واقعية عن الوضع الاقتصادى الحالى وفرص النمو على المدى القصير.
- التراجع عن إطلاق المشروعات القومية العملاقة التى تمتص السيولة من السوق بينما تدر عوائد على المدى البعيد.
- بناء شراكة مع القطاع الخاص وتحفيزه على لعب دور حيوى فى تحريك الاقتصاد بدلاً من مزاحمته.
- الإسراع فى خفض التكاليف وزيادة الضرائب بشكل موجه٬ لمن يستطيعون تحمل ذلك٬ لسد عجز الموازنة والسيطرة على الدين الحكومى.
- الإسراع بالاتفاق مع صندوق النقد للحصول على تمويل ميسر وعملة صعبة تدافع عن الجنيه وكذلك تمنح الاقتصاد شهادة ثقة دولية.
- العمل على تحجيم الواردات غير الأساسية لتقليل الضغط على الجنيه.
- إدراك أن السياحة والاستثمار الأجنبى مرهونان باستقرار الوضع الأمنى مما يحتاج لإعادة النظر فى استراتيجية إدارة الوضع الداخلى.
- التعاون اللصيق بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدنى لاحتواء الآثار الاجتماعية للتقشف المالى.
الخلاصة أنه بعد تراجع الدعم الخليجى للاقتصاد المصرى «على ريما أن تعود لعادتها القديمة». فعلى الحكومة العمل على تخفيض عجز الموازنة بشكل أسرع وإعادة ترسيم الملعب الاقتصادى مع القطاع الخاص لتحريك الاقتصاد وكذلك الاتفاق على قرض صندوق النقد لجذب الاستثمارات الأجنبية. لكن سيظل المشهد الاقتصادى أسيراً للتوجه السياسى والذى يحتاج للمصالحة والتهدئة السياسية أكثر من حاجته للحروب والاضطرابات الداخلية والتى لا يعلم نهايتها إلا الله، بينما تزيد من حدة الأزمة الاقتصادية وتقلل من فرص التعافى.
عمر الشنيطى
29 - نوفمبر - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق" و "موقع CNN بالعربية" و "مدونات مباشر"
No comments:
Post a Comment