Saturday, February 21, 2015

صناديق الاستثمار: هل تمثل خطرًا على القطاع الصحى؟

حدث أخيرا جدل كبير بسبب توسع صناديق الاستثمار المباشر فى الاستحواذ على عدة مستشفيات ومعامل كبيرة. وانقسم الناس بين مؤيد يرى ضرورة تشجيع هذا التوجه ويعتبره علامة على جاذبية مصر كوجهة استثمارية، وبين معارض يرى فى ذلك تكوينا لكيانات احتكارية تمثل خطرا على القطاع الصحى. ونظرا لأهمية القطاع، قد يكون من المفيد النظر للأمر بموضوعية وبدون التعرض لأسماء صناديق أو مستشفيات بعينها منعا للترويج أو التشهير.

فى البداية، ما هى صناديق الاستثمار المباشر؟
هى صناديق استثمار تقوم بجمع الأموال من مؤسسات مالية وعائلات ثرية وتستخدم هذه الأموال للاستحواذ على الشركات الخاصة بهدف تطويرها وتحسين أدائها المالى ثم إعادة بيعها بعد فترة لمستثمرين آخرين بقيمة أعلى من قيمة الاستحواذ. ويعمل مدير الصندوق على تعظيم قيمة الشركات المستثمر فيها عبر وسائل مختلفة كتغيير الإدارة وخفض النفقات والتوسع الجغرافى وإدماج الشركة مع شركات مثيلة لزيادة الحصة السوقية وزيادة الأرباح. وهذا الشكل الاستثمارى موجود فى العالم منذ عقود وقد شهد نموا ملحوظا مع بداية الألفية فى منطقة الشرق الأوسط بما فيها مصر، لكن اهتمام الصناديق بالسوق المصرية قد تراجع بعد الثورة نتيجة الاضطرابات السياسية ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى فى العام الماضى.

لكن لماذا تهتم الصناديق بالقطاع الصحى؟
فى ظل الوضع المتعثر للاقتصاد المصرى، تركز صناديق الاستثمار على القطاعات الدفاعية، قليلة التأثر بالركود الاقتصادى والتى يأتى على رأسها القطاع الصحى؛ حيث شهدت الفترة الأخيرة عدة استحواذات فى هذا القطاع من صناديق استثمار، بعضها محلية ولكن الاستحواذات الكبيرة كانت لصناديق غير مصرية. رغبة الصناديق فى الاستثمار فى القطاع يواكبها رغبة أصحاب المستشفيات فى البيع أو الشراكة، حيث إن أغلب المستشفيات مملوكة لأطباء قد يرغبون مع تقدم أعمارهم فى البيع وجنى الأرباح ومن يرغب التوسع منهم يقابل تحدى التمويل والذى يحتاج لرءوس أموال كبيرة.

يبدو ذلك جيدا. فما وجه الاعتراض عليه؟
أبدى بعض من يعملون بالقطاع الصحى تخوفهم من وجود احتكار إذا استمرت صناديق الاستثمار فى الاستحواذ على مقدمى الخدمات الكبار من مستشفيات ومعامل. وما يزيد الموضوع حساسية أن من يتصدر هذا التوجه هى صناديق استثمار غير مصرية. لكن القطاع الصحى فى مصر به ما يزيد على ٩٠٠ مستشفى خاص وما يزيد على ٧٠٠ مستشفى عام وجامعى، بينما عدد الاستحواذات السنوية فى القطاع لا تتعدى ١٠ استحواذات وهو ما يوحى بصعوبة وجود احتكار فى ذلك القطاع.

لكن هل فعلا لا توجد مخاطر احتكارية؟
بداية الاحتكار يتطلب وجود مقدم للخدمة يسيطر على حصة كبيرة فى السوق تمكنه من التحكم فى الأسعار مما يزيد من ربحيته على حساب المستفيدين منها. وهذه الحصة السوقية الاحتكارية تختلف من سوق لآخر؛ فالسيطرة على ٢٠ــ٣٠٪ من قبل شركة واحدة فى سوق به مئات من مقدمى الخدمة قد يعطى هذه الشركة قوة نسبية فى السوق. فى مثل هذه الحالة، لا نستطيع أن نسمى ذلك احتكارا لأن العميل لديه بدائل أخرى. لكن يتيح هذا الوضع لمثل هذه الشركة القيام بممارسات احتكارية كالتحكم فى الأسعار، خاصة إذا كانت هناك صعوبات للتحول لمقدم خدمة آخر.

فى حالة القطاع الصحى المصرى، إجمالى عدد استحواذات صناديق الاستثمار قد لا تتخطى ٥٪ من إجمالى عدد المستشفيات الخاصة وهو ما يوحى بعدم وجود احتكار ولا حتى مساحة لممارسات احتكارية. لكن إذا أخذنا فى الاعتبار تركز هذه الاستحواذات فى منطقة جغرافية معينة كالقاهرة الكبرى وعلى المستشفيات التى تستهدف شريحة معينة كأصحاب الدخل المتوسط وفوق المتوسط، فإن هذه الاستحواذات تمثل نسبة ليست بالقليلة من هذه الشريحة المستهدفة. ومع قدرة هذه الصناديق على الاستحواذ على معامل ومراكز أشعة وشركات تأمين صحى وشركات للأدوية فى نفس الوقت، فإن صناديق الاستثمار المباشر قد تستطيع الحصول على قوة سوقية تتيح لها القيام بممارسات احتكارية على حساب المرضى وكذلك الأطباء. وإذا اخذنا فى الاعتبار أيضا أن الجزء الأكبر من تلك الاستحواذات سيتركز فى يد عدد قليل من الصناديق، خاصة غير المصرية منها لقوتها المالية، فإن القلق من وجود ممارسات احتكارية فى المستقبل هو قلق منطقى حتى وإن سلمنا بأن الاستحواذات السابقة والحالية لا تمثل خطرا كبيرا.

إذا ما هو الحل؟
الادعاء بأن هذه الصناديق مضرة للقطاع الصحى غير صحيح؛ لأنها تساعد على تطوير القطاع بضخ الأموال ورفع كفاءة الإدارة وتوسيع نطاق الخدمات الطبية المقدمة. وإذا أردنا جذب استثمار أجنبى، فلا بد أن ندرك أن القطاع الصحى سيكون على رأس مستهدفات المستثمر الأجنبى. ولذلك فإعاقة مثل هذه الاستحواذات ليس أمرا مفيدا. لكن من ناحية أخرى، فإن إنكار وجود مخاطر احتكارية على القطاع نتيجة تزايد استحواذات الصناديق أشبه بدفن رءوسنا فى التراب. الحل يكمن فى إيجاد آلية للتنظيم والرقابة على مثل هذه الاستحواذات بشكل واضح ومتوازن. وقد يكون تأسيس لجنة للرقابة على مثل هذه الصفقات، تضم ممثلين من وزارات الاستثمار والصحة والتجارة ونقابة الأطباء وجهاز حماية المستهلك، خطوة استباقية جيدة تستطيع وضع معاير واضحة للتنظيم والرقابة على الاستحواذات.

الخلاصة أن استحواذات صناديق الاستثمار الحالية قد لا تؤدى لوجود احتكار فى القطاع الصحى، ولكن قد تنتج كيانات كبيرة بحصص سوقية كافية للقيام مستقبلا بممارسات احتكارية كالتحكم فى الأسعار مما يستلزم النظر للموضوع بجدية. لذلك لا يجب أن نغلق الباب أمام استثمارات الصناديق فى القطاع الصحى لكن يجب ألا نفتح الباب على مصراعيه بدون رقابة. ووجود آلية للتنظيم والرقابة على الاستحواذات لا يعنى بالضرورة العودة لنموذج الاتحاد السوفيتى، بل إن مثل هذه الآليات معمول بها فى دولا رأسمالية كأمريكا لتنظيم الاستحواذات والاندماجات فى القطاع الصحى تجنبا للممارسات الاحتكارية. لذلك فالأحرى بنا أن نبادر بتنظيم هذا القطاع لتشجيع المستثمرين فيه وفى نفس الوقت حماية المستفيدين منه.

عمر الشنيطى
21 - فبراير - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق و موقع CNN  بالعربية"

Sunday, February 8, 2015

المؤتمر الاقتصادى: ماذا نتوقع منه؟

بضعة أسابيع تفصلنا عن المؤتمر الاقتصادى المرتقب والذى من المفترض انعقاده فى منتصف مارس القادم فى شرم الشيخ. وتعلق الحكومة الكثير من الآمال عليه حيث تتوقع جذب استثمارات أجنبية كبيرة تدفع عجلة النمو وتوفر العملة الصعبة للدفاع عن الجنيه. ومع البروباجندا الإعلامية، يعتقد الكثير من عوام الناس أن هذا المؤتمر هو الحد الفاصل بين حقبة الركود الاقتصادى وحقبة النمو والازدهار. لكن ما مدى واقعية هذا الرأى؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، من المفيد معرفة: متى بدأ الحديث عن المؤتمر؟

دعا العاهل السعودى -رحمه الله- بعد تنصيب الرئيس فى مطلع الصيف الماضى لعقد مؤتمر للمانحين لمصر والذى كان من البديهى أن تتصدره السعودية والإمارات والكويت. وقد كان من المفترض أن ينعقد المؤتمر خلال الصيف الماضى لكن استمر تأجيله حتى وصلنا للموعد الأخير فى مارس ٢٠١٥، بالإضافة إلى التأجيل، فقد تم تغيير طبيعة المؤتمر من «مؤتمر للمانحين» إلى «مؤتمر اقتصادى» يهدف لجذب الاستثمارات. وقد تعاقدت الحكومة مع شركات عالمية للاستشارات المالية والعلاقات العامة لتنسيق المؤتمر. ومن الجدير بالذكر أنه فى البداية كان الحديث عن ١٠٠ مليار دولار استثمارات أجنبية كمستهدف، لكن بمرور الوقت انخفض الرقم للنصف حتى أصبح الحديث مؤخرا عن حوالى ١٥-٢٠ مليار دولار فقط.

بعيدا عن تغير المستهدفات الرسمية، يحق لنا السؤال: ما هو معيار نجاح المؤتمر فى الأساس؟

المؤتمر كما تم الترويج له يهدف لجذب استثمارات أجنبية بشكل كبير تساعد على إخراج الاقتصاد من الركود. ويجدر فى هذا الصدد الإشارة إلى وجود ثلاثة أنواع من الاستثمارات. الأول الاستثمار الحكومى والذى توسع بعد ٣٠ يونيو لكن سرعان ما تراجع مع مساعى الحكومة التقشفية للسيطرة على عجز الموازنة. أما النوع الثانى فهو استثمار القطاع الخاص المحلى وهو ما شهد انكماشا منذ الثورة نتيجة اضطراب الوضع السياسى والأمنى والملاحقة القضائية للعديد من رجال الأعمال الكبار، وكذلك الضغط على الجنيه الذى يدفعهم للدولرة- تحويل مدخراتهم من جنيه لدولار. ومع تراجع هذين النوعين، يبرز أهمية النوع الثالث: الاستثمار الأجنبى المباشر.

وقد استعانت الحكومة بشركات استشارات عالمية لمساعدتها فى رسم تصور للخروج من الأزمة الاقتصادية، والذى يرتكز على جذب تدفقات نقدية خارجية بحوالى ١٢٠ مليار دولار خلال أربعة أعوام فى صورة استثمارات أجنبية فى الأساس لتحقيق معدلات نمو تتخطى ٥٪ لاستعادة النمو والدفاع عن الجنيه. وبالتالى حينما نقارن ما يحتاجه الاقتصاد وما تتوقعه الحكومة من المؤتمر، فإنه من الواضح أن هذا المؤتمر لن يستطيع تحقيق الهدف الأسمى منه وهو الخروج من حالة الركود.

لكن لماذا انخفضت التوقعات؟

يمكن إرجاع الانخفاض لسببين: الأول هو انخفاض أسعار البترول بشكل حاد وسريع مما يخفض من الفوائض المالية فى دول الخليج ويقلل من قدرتها على دعم مصر والاستثمار فيها. أما الثانى فهو تحول المنطقة لصفيح ساخن بوجود تنظيم كداعش يتصرف وكأنه دولة، يصدر جوازات سفر ويدير منشآت؛ مما يزيد من خطورة الاستثمار فى المنطقة بشكل عام. وللأسف مصر لم تصبح بعيدة عن ذلك الخطر مع تزايد تكرار وحدة الهجمات المسلحة.

لكن ماذا كانت متطلبات المستثمرين الأجانب؟ هناك خمسة متطلبات رئيسية يمكن تفصيلها كالآتي:

الأول: وجود خارطة طريق سياسية واضحة تضمن استقرار النظام الجديد لفترة طويلة. وفى هذا الصدد تمت الموافقة على دستور جديد وانتخاب رئيس، لكن الأغلبية الساحقة تعيد للأذهان ذكريات فترات سابقة. كما أن الشواهد تشير إلى مجلس نواب الحزب الواحد مرة أخرى. وعلى الرغم من أن المستثمرين الأجانب لا يهتمون بقضية الديمقراطية إلا أنهم يولون اهتماما كبيرا لقضية استقرار واستدامة النظام وهو ما يشوبه علامات استفهام ليست بالقليلة.

الثانى: تبنى برنامج إصلاح اقتصادى يسيطر على عجز الموازنة والدين الحكومى المتصاعدين وهو ما بدأت به الحكومة بالفعل، وكان أبرز ملامحه رفع أسعار الطاقة فى إشارة أن محرمات العقود الثلاثة السابقة (رفع الدعم) أصبحت من المباحات. كما حالف الحكومة الحظ هذه المرة وانخفضت أسعار الطاقة عالميا مما يخفض من عجز الموازنة. وذلك بالتأكيد محل تقدير من المستثمرين.

الثالث: تخفيض الجنيه مما يجعل سعر صرفه مقاربا لقيمته الحقيقية، وكذلك توافر الدولار بشكل دائم فى السوق. وقد كان للتخفيض الأخير فى الجنيه أثر إيجابي حيث رد على مخاوف المستثمرين وطمأنهم فى هذا الصدد. لكن يبقى التخوف من توافر الدولار لتلبية حاجة المستثمرين فى وقت يتراجع فيه الاحتياطى لدى البنك المركزى.

الرابع: إقرار قانون موحد للاستثمار يوضح آلية الاستثمار فى البلد وما يخص تخصيص الأراضى والمعاملة الضريبية والجمركية. وقد تم بالفعل إصدار مسودة للقانون لكن لم يتم إقرار القانون بعد، مع تحفظات كبيرة على دستوريته.

الخامس: وجود استقرار أمنى فى البلد. وهذه النقطة هى الأهم للمستثمرين لكنها أصبحت أكثر النقاط ضعفا. فطبقا للرواية الرسمية، فإن مصر تحارب الإرهاب وتواجه أخطر تنظيم سرى فى العالم مما يستدعى قيادة عسكرية موحدة لمواجهته. هذا التطور مؤسف بكل المقايس ولا يرضاه مصرى مخلص لبلده. لكن المستثمر الأجنبى ليس مصريا وليس مخلصا لأم الدنيا وأقل ما يمكن أن يقوله: «دعنا ننتظر حتى تستقر الأوضاع».

الخلاصة أن التوقعات من المؤتمر الاقتصادى انخفضت بشكل كبير بمرور الوقت بسبب الوضع الداخلى والتغيرات الإقليمية مما أضعف من احتمالية جذب استثمارات بالشكل الكافى لإخراج الاقتصاد من الركود. لكن هل كان من المنطقى افتراض أن تستطيع دولة تمر لسنوات بأزمة سياسية وأمنية حرجة جذب عشرات المليارات من الدولارات فى مؤتمر واحد؟ بالطبع لا. ولعل الهدف الأوقع كان رسم صورة أفضل عن البلد تؤدى لاستثمارات على المدى المتوسط. على كل حال، سينعقد المؤتمر بعد أسابيع وسنسمع عن صفقات بعشرات المليارات لكن بدون جدول زمنى للتنفيذ حتى ننسى الأمر ونعاود البحث عن حدث كبير آخر نعلق عليه آمالنا، بدلا من إدراك أن ما أفسده الدهر يحتاج لأكثر من مؤتمر أو مشروع قومى لإصلاحه.


عمر الشنيطى
8 - فبراير - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق و موقع CNN  بالعربية"