حدث أخيرا جدل كبير بسبب توسع صناديق الاستثمار المباشر فى الاستحواذ على عدة مستشفيات ومعامل كبيرة. وانقسم الناس بين مؤيد يرى ضرورة تشجيع هذا التوجه ويعتبره علامة على جاذبية مصر كوجهة استثمارية، وبين معارض يرى فى ذلك تكوينا لكيانات احتكارية تمثل خطرا على القطاع الصحى. ونظرا لأهمية القطاع، قد يكون من المفيد النظر للأمر بموضوعية وبدون التعرض لأسماء صناديق أو مستشفيات بعينها منعا للترويج أو التشهير.
فى البداية، ما هى صناديق الاستثمار المباشر؟
هى صناديق استثمار تقوم بجمع الأموال من مؤسسات مالية وعائلات ثرية وتستخدم هذه الأموال للاستحواذ على الشركات الخاصة بهدف تطويرها وتحسين أدائها المالى ثم إعادة بيعها بعد فترة لمستثمرين آخرين بقيمة أعلى من قيمة الاستحواذ. ويعمل مدير الصندوق على تعظيم قيمة الشركات المستثمر فيها عبر وسائل مختلفة كتغيير الإدارة وخفض النفقات والتوسع الجغرافى وإدماج الشركة مع شركات مثيلة لزيادة الحصة السوقية وزيادة الأرباح. وهذا الشكل الاستثمارى موجود فى العالم منذ عقود وقد شهد نموا ملحوظا مع بداية الألفية فى منطقة الشرق الأوسط بما فيها مصر، لكن اهتمام الصناديق بالسوق المصرية قد تراجع بعد الثورة نتيجة الاضطرابات السياسية ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى فى العام الماضى.
لكن لماذا تهتم الصناديق بالقطاع الصحى؟
فى ظل الوضع المتعثر للاقتصاد المصرى، تركز صناديق الاستثمار على القطاعات الدفاعية، قليلة التأثر بالركود الاقتصادى والتى يأتى على رأسها القطاع الصحى؛ حيث شهدت الفترة الأخيرة عدة استحواذات فى هذا القطاع من صناديق استثمار، بعضها محلية ولكن الاستحواذات الكبيرة كانت لصناديق غير مصرية. رغبة الصناديق فى الاستثمار فى القطاع يواكبها رغبة أصحاب المستشفيات فى البيع أو الشراكة، حيث إن أغلب المستشفيات مملوكة لأطباء قد يرغبون مع تقدم أعمارهم فى البيع وجنى الأرباح ومن يرغب التوسع منهم يقابل تحدى التمويل والذى يحتاج لرءوس أموال كبيرة.
يبدو ذلك جيدا. فما وجه الاعتراض عليه؟
أبدى بعض من يعملون بالقطاع الصحى تخوفهم من وجود احتكار إذا استمرت صناديق الاستثمار فى الاستحواذ على مقدمى الخدمات الكبار من مستشفيات ومعامل. وما يزيد الموضوع حساسية أن من يتصدر هذا التوجه هى صناديق استثمار غير مصرية. لكن القطاع الصحى فى مصر به ما يزيد على ٩٠٠ مستشفى خاص وما يزيد على ٧٠٠ مستشفى عام وجامعى، بينما عدد الاستحواذات السنوية فى القطاع لا تتعدى ١٠ استحواذات وهو ما يوحى بصعوبة وجود احتكار فى ذلك القطاع.
لكن هل فعلا لا توجد مخاطر احتكارية؟
بداية الاحتكار يتطلب وجود مقدم للخدمة يسيطر على حصة كبيرة فى السوق تمكنه من التحكم فى الأسعار مما يزيد من ربحيته على حساب المستفيدين منها. وهذه الحصة السوقية الاحتكارية تختلف من سوق لآخر؛ فالسيطرة على ٢٠ــ٣٠٪ من قبل شركة واحدة فى سوق به مئات من مقدمى الخدمة قد يعطى هذه الشركة قوة نسبية فى السوق. فى مثل هذه الحالة، لا نستطيع أن نسمى ذلك احتكارا لأن العميل لديه بدائل أخرى. لكن يتيح هذا الوضع لمثل هذه الشركة القيام بممارسات احتكارية كالتحكم فى الأسعار، خاصة إذا كانت هناك صعوبات للتحول لمقدم خدمة آخر.
فى حالة القطاع الصحى المصرى، إجمالى عدد استحواذات صناديق الاستثمار قد لا تتخطى ٥٪ من إجمالى عدد المستشفيات الخاصة وهو ما يوحى بعدم وجود احتكار ولا حتى مساحة لممارسات احتكارية. لكن إذا أخذنا فى الاعتبار تركز هذه الاستحواذات فى منطقة جغرافية معينة كالقاهرة الكبرى وعلى المستشفيات التى تستهدف شريحة معينة كأصحاب الدخل المتوسط وفوق المتوسط، فإن هذه الاستحواذات تمثل نسبة ليست بالقليلة من هذه الشريحة المستهدفة. ومع قدرة هذه الصناديق على الاستحواذ على معامل ومراكز أشعة وشركات تأمين صحى وشركات للأدوية فى نفس الوقت، فإن صناديق الاستثمار المباشر قد تستطيع الحصول على قوة سوقية تتيح لها القيام بممارسات احتكارية على حساب المرضى وكذلك الأطباء. وإذا اخذنا فى الاعتبار أيضا أن الجزء الأكبر من تلك الاستحواذات سيتركز فى يد عدد قليل من الصناديق، خاصة غير المصرية منها لقوتها المالية، فإن القلق من وجود ممارسات احتكارية فى المستقبل هو قلق منطقى حتى وإن سلمنا بأن الاستحواذات السابقة والحالية لا تمثل خطرا كبيرا.
إذا ما هو الحل؟
الادعاء بأن هذه الصناديق مضرة للقطاع الصحى غير صحيح؛ لأنها تساعد على تطوير القطاع بضخ الأموال ورفع كفاءة الإدارة وتوسيع نطاق الخدمات الطبية المقدمة. وإذا أردنا جذب استثمار أجنبى، فلا بد أن ندرك أن القطاع الصحى سيكون على رأس مستهدفات المستثمر الأجنبى. ولذلك فإعاقة مثل هذه الاستحواذات ليس أمرا مفيدا. لكن من ناحية أخرى، فإن إنكار وجود مخاطر احتكارية على القطاع نتيجة تزايد استحواذات الصناديق أشبه بدفن رءوسنا فى التراب. الحل يكمن فى إيجاد آلية للتنظيم والرقابة على مثل هذه الاستحواذات بشكل واضح ومتوازن. وقد يكون تأسيس لجنة للرقابة على مثل هذه الصفقات، تضم ممثلين من وزارات الاستثمار والصحة والتجارة ونقابة الأطباء وجهاز حماية المستهلك، خطوة استباقية جيدة تستطيع وضع معاير واضحة للتنظيم والرقابة على الاستحواذات.
الخلاصة أن استحواذات صناديق الاستثمار الحالية قد لا تؤدى لوجود احتكار فى القطاع الصحى، ولكن قد تنتج كيانات كبيرة بحصص سوقية كافية للقيام مستقبلا بممارسات احتكارية كالتحكم فى الأسعار مما يستلزم النظر للموضوع بجدية. لذلك لا يجب أن نغلق الباب أمام استثمارات الصناديق فى القطاع الصحى لكن يجب ألا نفتح الباب على مصراعيه بدون رقابة. ووجود آلية للتنظيم والرقابة على الاستحواذات لا يعنى بالضرورة العودة لنموذج الاتحاد السوفيتى، بل إن مثل هذه الآليات معمول بها فى دولا رأسمالية كأمريكا لتنظيم الاستحواذات والاندماجات فى القطاع الصحى تجنبا للممارسات الاحتكارية. لذلك فالأحرى بنا أن نبادر بتنظيم هذا القطاع لتشجيع المستثمرين فيه وفى نفس الوقت حماية المستفيدين منه.
عمر الشنيطى
21 - فبراير - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق و موقع CNN بالعربية"