Saturday, December 27, 2014

أسعار البترول والاقتصاد المصرى

التغير فى أسعار البترول له آثار متباينة على دول العالم التى يمكن تقسيمها بين رابحين وخاسرين حينما تتغير أسعار البترول. ومصر لا تختلف فى ذلك عن دول العالم، فانخفاض أسعار البترول له آثار عديدة ومتباينة على الاقتصاد المصرى.

يُذكر أن سعر برميل البترول كان يقارب 110 دولار فى بداية العام، لكن الأسعار انهارت فى الأشهر الماضية لما دون 60 دولار للبرميل، خلافا لأغلب التوقعات. ويمكن تفسير ذلك بتراجع النمو العالمى مما خفض الطلب على البترول خاصة من الصين. وانخفاض الطلب قابلته زيادة غير متوقعة فى الإنتاج من العراق وليبيا. كما أن التوسع فى استخراج الغاز الصخرى فى أمريكا قد خفض من حاجتها لاستيراد البترول. كل هذه العوامل أدت بدورها لوجود زيادة فى المعروض مقابل الطلب مؤدية لانخفاض الأسعار.

فى مثل هذه الأحوال عادة ما تقوم الأوبك، منظمة اتحاد الدول المصدرة للبترول، بتخفيض إنتاجها للحفاظ على أسعار البترول. لكن ذلك لم يحدث؛ حتى إن بعض وزراء البترول بدول الخليج صرحوا بعدم التفكير فى خفض الإنتاج حتى وصول سعر البرميل إلى 40 دولار. ويفسر البعض ذلك بحاجة الأوبك للحفاظ على حصتها السوقية، بينما يفسره البعض الآخر بالرغبة فى إفلاس صناعة الغاز الصخرى التى لا تستطيع تحمل الأسعار المنخفضة لفترات طويلة. لكن مع سرعة انهيار الأسعار يبرز التفسير السياسى الذى يعزو الأمر للضغط الأمريكى على بعض دول الأوبك لخفض الأسعار للضغط على إيران وروسيا التى تأثر اقتصادها بشدة حيث فقدت العملة الروسية قرابة نصف قيمتها أمام الدولار، ومن المتوقع أن يشهد الاقتصاد الروسى انكماشا فى العام الحالى مع تصاعد عجز الموازنة.

يتوقع البعض أن تستمر الأسعار فى الانخفاض حتى تقوم الأوبك فى الربيع القادم بخفض الإنتاج لإستعادة الأسعار لمستويات مُرضية، بينما يرى البعض الآخر أن قدرة الأوبك على رفع الأسعار قد تلاشت حيث تمثل الأوبك ثلث الإنتاج العالمى فقط وهو ما يؤدى إلى احتمالية انخفاض الأسعار لفترة ممتدة. ولكن يصعب الترجيح بين أى من وجهات النظر السابقة نظرا لحدة وسرعة الانخفاض فى الأشهر الماضية، فى حين يبقى من المنطقى افتراض بقاء الأسعار على مستويات منخفضة خلال العام القادم مما يؤدى إلى آثار مختلفة على الاقتصاد المصرى يمكن تحديد سبعة أوجه رئيسية لها:

الأول: دعم المواد البترولية: انخفاض أسعار البترول يقلل من الدعم الحكومى للمواد البترولية. ومع قيام الحكومة برفع الدعم جزئيا عن المواد البترولية المختلفة الصيف الماضى، فإن بعض هذه المنتجات أصبح سعرها الحالى مقاربا للسعر العالمى وهو ما سيؤدى إلى تخفيض بند الدعم فى الموازنة وبالتالى خفض عجز الموازنة حيث يصل حجم الوفر لحوالى 50 ــ 70 مليار جنيه، بناء على بعض التقديرات.

الثاني: أرباح وضرائب قطاع البترول: يساهم قطاع البترول فى تمويل إيرادات الموازنة بما يقارب 90 مليار جنيه سنويا سواء من خلال أرباح القطاع أو دفع الضرائب. ومع انخفاض أسعار البترول ستتأثر ربحية قطاع البترول وكذلك حصيلة الضرائب من القطاع وهو ما سيؤثر بشكل سلبى على عجز الموازنة.

الثالث: الدين الحكومى: انخفاض عجز الموازنة سيؤدى إلى تخفيف الاقتراض من البنوك المحلية ولعل ذلك ما دفع وكالة «فيتش» لرفع تصنيف مصر الائتمانى مؤخرا مما سيؤدى إلى خفض سعر الفائدة وبالتالى بند خدمة الدين فى الموازنة بالإضافة إلى فتح الباب للاقتراض الخارجى.

الرابع: الصادرات والواردات البترولية: مصر مستورد صافى للمواد البترولية حيث إن ما تستورده منها أكبر مما تصدره. ومع انخفاض أسعار البترول ستنخفض الواردات بدرجة أكبر من انخفاض الصادرات وبالتالى سينخفض العجز المستديم بين ما يدخل للاقتصاد من دولار وما يخرج منه.

الخامس: السياحة: تأثر القطاع السياحى بشدة منذ الثورة وانخفضت أعداد السائحين بشكل عام إلا أن أعداد السائحين الروسيين شهدت نموا ملحوظا حيث زاد عددهم من 2.4 مليون فى 2013 لقرابة 3 مليون فى 2014. لكن مع انهيار الاقتصاد الروسى فإن أعداد السائحين الروسيين من المتوقع أن تنخفض مما سيؤثر على القطاع بشكل عام ومساهمته فى نمو الاقتصاد، كما أنه سيؤثر سلبا على ما يدخل للاقتصاد من دولار.

السادس: الدعم الخليجي: مع انخفاض أسعار البترول لما دون 60 دولار للبرميل، فإن الدول الخليجية الداعمة لمصر ستواجه عجزا وهو ما دفعها بالفعل لمراجعة ميزانياتها؛ مما سيؤثر على قدرة تلك الدول على دعم الاقتصاد المصرى. بالرغم من غزارة الدعم الخليجى لمصر إلا أن الفترة الأخيرة أوضحت تحول الدعم من مساعدات إلى استثمارات مباشرة تعول عليها الحكومة المصرية الآن. وعلى الرغم من الاحتياطيات المتراكمة فى دول الخليج إلا أن انخفاض إيرادات البترول تزامنا مع تكلفة الحرب على داعش قد تقلل من قدرة دول الخليج على ضخ استثمارات كبيرة فى مصر فى المستقبل القريب. هذا التراجع سيؤدى إلى صعوبة الخروج من الركود الاقتصادى وتحقيق معدلات نمو مرتفعة، بالإضافة إلى تقليل التدفقات الواردة من العملة الصعبة وبالتالى زيادة الضغط على الجنيه.

السابع: تحويلات المصريين بالخارج: شهدت تحويلات المصريين بالخارج زيادة كبيرة عقب الثورة لكنها ما لبثت أن تراجعت فى 2013/2014 ومن المتوقع أن تتراجع التحويلات بشكل أكبر مع انخفاض أسعار البترول ووجود عجز فى دول الخليج؛ وبالتالى أيضا زيادة الضغط على الجنيه.

الخلاصة أن انخفاض أسعار البترول له آثار متباينة على الاقتصاد المصرى حيث من المتوقع أن يكون التأثير إيجابيا على عجز الموازنة، بسبب انخفاض الدعم بدرجة أكبر من انخفاض أرباح وضرائب قطاع البترول، وهو ما سيساعد على السيطرة على الدين الحكومى وتحسين التصنيف الائتمانى. بينما من المتوقع أن يكون التأثير سلبيا على سعر صرف الجنيه، فعلى الرغم من انخفاض صافى الواردات البترولية إلا أن تراجع السياحة وتحويلات المصريين بالخارج والاستثمارت الخليجية سيكون بدرجة أكبر. كما أن تراجع الاستثمارت الخليجية سيؤثر على قدرة الاقتصاد على الخروج من فخ الركود.


عمر الشنيطى
27 -ديسمبر - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق و موقع CNN  بالعربية"

Saturday, December 13, 2014

عن المخرج من الدائرة المفرغة

بعيدا عن البروباجندا الإعلامية، قد تكون الفترة الأخيرة من أصعب الفترات التى مرت على مصر فى تاريخها المعاصر من حيث تعقيد الوضع العام على مستوياته المختلفة. فى خضم هذا المشهد، يتسائل البعض ما فائدة الحديث عن الاقتصاد؟ وما فائدة النهوض به؟ وهل بالإمكان حدوث نهوض اقتصادى فى ظل هذه الأجواء؟
إن إدارة الدولة لها ثلاثة محاور أساسية: محور سياسى ومحور اقتصادى ومحور اجتماعى، والنهوض بالبلد يتطلب تطوير المحاور الثلاثة. ويهدف المحور السياسى لإيجاد نظام يتيح للمواطنين اختيار من يحكمهم ويتيح للأحزاب المختلفة تبادل السلطة بشكل سلمى ويؤسس لتوازن بين مختلف السلطات. أما المحور الاقتصادى فيهدف لتحقيق معدلات نمو مرتفعة تعمل على خلق فرص عمل فى ظل الحفاظ على مستويات الأسعار. بينما يهدف المحور الإجتماعى لتوزيع الدخل بشكل عادل مع وجود شبكة ضمان اجتماعى توفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين. وهذه المحاور الثلاثة تثير العديد من الأسئلة:

أولا: ما العلاقة بين هذه المحاور؟
هذه المحاور شديدة الترابط والتشابك، والتغيير فى أحدها يؤثر على المحورين الآخرين. فالتوجه الاقتصادى الهادف لخفض الدعم من أجل السيطرة على عجز الموازنة والدين الحكومى له أثر اجتماعى كبير، حيث إن ارتفاع أسعار السلع والخدمات الرئيسية يؤدى إلى زيادة معدلات الفقر بشكل كبير. ومع موجات رفع أسعار الطاقة المستقبلية سيزداد الوضع الاجتماعى سوءا، وهو ما قد يتحول إلى اضطرابات سياسية يصعب التكهن بنتائجها. بينما يحدث العكس إذا رفعت الحكومة الدعم والإنفاق الاجتماعى فى الموازنة، فيتحسن الوضع الاجتماعى، ويتم إحراز مكاسب سياسية كبيرة، لكن قد يؤدى ذلك إلى وضع اقتصادى غير مستدام مع ارتفاع عجز الموازنة والدين الحكومى مما يؤدى لاحقا لتقشف أكثر قسوة ووضع اجتماعى حرج.

الثانى: ما الوضع الحالى للمحاور الثلاثة؟
النظر بشكل استراتيجى يوضح وضعا حرجا. فالاقتصاد يمر بفترة من الركود التضخمى يصعب التعامل معه مما قد يتطلب عدة سنوات من السياسة التقشفية وما يتبعها من عبء على الفئات الأكثر فقرا. أما الوضع السياسى فقد يكون فى تراجع أكبر. ومن الجدير بالذكر، أن المستثمرين لا يأبهون للوضع السياسى كثيرا بينما محط اهتمامهم هو الوضع الأمنى. ويمكن الاستدلال بالعقد الذى سبق الثورة، حيث تدفقت الاستثمارت الأجنبية، وكانت مصر محل اهتمام المستثمرين فى المنطقة على الرغم من عدم وجود رؤية سياسية واضحة وطغيان مشروع الثوريث على المشهد إضافة إلى تصاعد الاحتجاجات العمالية.

لذلك فالمشكلة الحقيقية للمستثمرين هى الاضطراب الأمنى، بينما يظل الوضع الاجتماعى هو الأكثر تضررا كالمعتاد من تدهور الوضع السياسى والاقتصادى. أما الأكثر حرجا هو التأثير السلبى لهذا العوامل على بعضها البعض. فتدهور الاقتصاد يؤدى إلى سوء الوضع الاجتماعى ويولد مخاطر سياسية وأمنية، وهو ما يؤدى إلى إحجام المستثمرين، وبالتالى تراجع الاقتصاد، وهو ما بدوره يؤدى إلى تدهور الوضع الاجتماعى، وما يستتبعه من انخفاض القوة الشرائية وبالتالى مزيد من التدهور الاقتصادى وهكذا.

الثالث: هل يمكن تطوير أحد المحاور دون الآخرين؟
قد يبدو وكأننا دخلنا «مغارة على بابا» وأن الخروج منها مستحيلا، لكن هناك مخرجا بالتأكيد. حتى يتسنى الوصول لنهضة شاملة، من الضرورى وصول كل محور إلى حد مقبول من التطور لضمان الاستدامة والتفاعل الإيجابى بين المحاور المختلفة. قد لا يكون المخرج مثاليا بالعمل على تطوير المحاور الثلاثة فى آن واحد، لكن العمل على تطوير أحد المحاور قد يكون له أثر على المحاور الأخرى والصورة الكلية. ولعل العقد الأخير الذى سبق الثورة خير دليل على ذلك. فالاقتصاد استطاع تحقيق معدلات نمو مرتفعة، كان يتباهى بها الوزراء آنذاك، بينما شهد الوضع السياسى والاجتماعى تدهورا ملحوظا حيث ارتفعت معدلات الفقر وزاد عدم استقرار الوضع السياسى مما أدى إلى خروج الناس فى ٢٥ يناير مطالبين بإسقاط النظام. ولذلك فمهما عظم حجم الإنجاز فى أحد الأبعاد دون تطور الأبعاد الأخرى، فإن النظام مهما كانت قوته لن يكون مستداما. لكن من ناحية أخرى، يستطيع أحد المحاور أن يسبق الآخرين.

الرابع: ما أثر إصلاح المحور الاقتصادى على المحاور الأخرى؟
فى وقت يظهر فيه أن المجال السياسى مغلق تحت دعاوى محاربة الإرهاب، قد يكون المحور الأوقع للخروج من الدائرة المفرغة هو المحور الاقتصادى حيث أن تحسن الاقتصاد وما يلحق به من خلق فرص عمل وانخفاض فى معدلات الفقر من المواضيع الأقل خلافا فى المجتمع، وإن اختلف الناس على كيفية تطبيق ذلك. هذا التحسن الاقتصادى والاجتماعى، حتى وإن كان طفيفا وتدريجيا، قد يمثل خطوة فعالة للخروج من الدائرة المفرغة. لكن تحسن الاقتصاد وما يتطلبه من خفض فى عجز الموازنة لن يأتى بدون تكلفة اجتماعية على المدى الكثير، وهو ما على الحكومة أن تنتبه له بتبنى إصلاحات اقتصادية تدريجية مصحوبة بتوسيع شبكة الضمان الاجتماعى من تحويلات نقدية مباشرة وبرامج اجتماعية حتى يتم تقليل الأثر السلبى للإصلاحات الاقتصادية، لكن يظل الحد الأدنى من الاستقرار الأمنى مطلوب لإتاحة المجال لتلك الإصلاحات والتى تستطيع إحداث تحسن اقتصادى يعقبه تحسن اجتماعى يمكن أن يخفف من تدهور الوضع العام.

الخلاصة أن مناقشة الملف الاقتصادى فى حالتنا المعقدة لا تعتبر من باب الرفاهية حيث يمكن للاقتصاد أن يمثل تذكرة الخروج من غياهب التدهور المتسارع. ففى وضع كالذى تمر به مصر يبدو وكأننا دخلنا «مغارة على بابا»، لكن بلا شكل هناك أمل فى الخروج منها بالتركيز على المحور الاقتصادى، الأكثر إتاحة والأقل جدلا، بتنبى إصلاحات اقتصادية تدريجية مصحوبة بتوسيع شبكة الضمان الإجتماعى. وهذا التوجه يستطيع تحسين الوضع الاقتصادى والإجتماعى وهو ما سينعكس بدوره على الجانب السياسى إذا توفر الحد الأدنى من الاستقرار الأمنى، لكن سيظل استدامة هذا التحسن مرهونة بوجود تنمية حقيقية عبر المحاور الثلاثة.




عمر الشنيطى
13 - ديسمبر - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق و موقع CNN  بالعربية"