Saturday, January 25, 2014

نحو نمو واقعى ومتوازن

النظر في أرقام الاقتصادي المصري الكلية من حيث مقياس جيني المختص بقياس مستوى العدالة في توزيع الدخل على الشرائح المختلفة في المجتمع وكذلك متوسط مستوى دخل الفرد في السنوات التي سبقت ثورة ٢٥ يناير ومقارنة مصر ببعض دول أمريكا اللاتينية صاحبة التجارب الرائدة في العدالة الإجتماعية يوضح أن مستوى توزيع الدخل في مصر أكثر عدالة من البرازيل والأرجنتين، بينما متوسط دخل الفرد في مصر يقف عند حوالي ربع مستوى الدخل في البرازيل والأرجنتين. وهذا يعني أن المشكلة في مصر ليست في العدالة الإجتماعية وتوزيع الدخل، لكنها تكمن في انخفاض مستوى دخل الفرد في المقام الأول (كما سبق شرحه بالتفصل في مقال سابق، يمكن مراجعته في الرابط الأول)
 
كما أن النظر لهيكل المصروفات الحكومية يوضح أن ٧٧٪ من إجمالي المصروفات تذهب لثلاثة بنود رئيسية هي الرواتب والدعم وخدمة الدين ومن الصعب إجراء تغيرات في هذه البنود على المدى القصير مما يقلل من الحيز المالى المتاح للحكومة لتنشيط الاقتصاد ويزيد من الإعتماد على القطاع الخاص في دفع عجلة النمو وخلق فرص عمل. ولذلك فإن الأولى تبني سياسات تدفع النمو وترفع مستوى الدخل قبل الدفع في إعادة توزيع الدخل والذي قد يكون له أثرا سلبيا على المدى القصيرعلى من كانت هذه الإجراءات تهدف لتحسين وضعهم في الأساس.
 
وعلى الرغم من وجاهة الدفع بسياسات تحفيزية لتنشيط الاقتصاد إلا أن هذه السياسة قد لا تختلف ظاهريا عن توجه النظام قبل ثورة ٢٥ يناير مما يثير القلق حول الأثر السلبي لتبني مثل هذه السياسة. لكن يمكن الرد على ذلك بأن المشكلة الحقيقة ليست في تبني هذه السياسية على وجه التحديد وإنما تكمن في توغل الفساد وما يستتبعه من فقر. فالفساد المتوغل في جهاز الدولة الإداري والذي قد يصل لدرجة الفساد الممنهج يزيد من حدة الفقر ويمنع من وصول ثماره النمو للفقراء لمساعدتهم في الخروج من حيز الفقر المدقع. ولذلك فإن توغل الفساد العائق الأكبر ومن الضروري تبني برامج لمكافحة الفقر ومحاربة الفساد جنبا إلى جنب مع دفع النمو.
 
كما أن العديد من الأبحاث تشير إلى أن بناء المنظومة الاقتصادية في العقود الأخيرة فى الدول المتقدمة ثم النامية على أهمية الدفع بالنمو أولاً نتج عنها تحمل الفقراء وحدهم تبعات الأزمات المتعلقة بالدورة الاقتصادية وبالتالي زاد من معاناتهم. ومن المفيد النظر إلى الفقر على أنه قصور فى مجموعة المخرجات التى يستطيع الفرد الوصول إليها، وليس فقرا فى توافر الموارد المتاحة له أو فى توفير إحتياجاته الأساسية. فقد تكون الموارد متوفرة لكن لا يستطيع الفرد الحصول عليها ولذلك يدخل في دائرة الفقر. وقد أثبتت الدراسات وجود علاقة طردية بين نجاح مكافحة الفقر والنمو الاقتصادى كأهداف للسياسة المالية وذلك عن طريق ثلاثة قنوات أساسية للتكامل بين النمو وتحقيق العدالة.
 
أولا: العدالة التوزيعية للإنفاق، بحيث تستفيد منه كل فئة وكل منطقة جغرافية وفق درجة الإحتياج ولا يتم التركيز فقط على المناطق التي يسكن فيها أصحاب النفوذ والمصالح الاقتصادية. وتحقق ذلك يمكن إعتباره نوعا من التأمين الإجتماعى ضد بعض أنواع المخاطر التى لا يتوافر لها التأمين الخاص.
 
ثانياً: توافر شروط المساعدة على الخروج من الفقر في جوانب الإنفاق التى يستفيد منها الفقراء حتى تزال العوائق للحصول على موارد النمو وبالتالي تساعد الفقراء على أن يكونوا قوة إضافية للإنتاج فى المستقبل. ويأتي ذلك عن طريق العدالة فى توزيع الخدمات والبنية التحتية والنمو ذاته من ناحية، وتيسير إنتقال الأفراد بتكلفة مقبولة للعمل فى مناطق تركز النمو فى الأجل الأقصر من ناحيةً أخرى.
 
ثالثاً: مكافحة تسرب ثمار النمو وفرص المشاركة فيه من خلال غلق قنوات الفساد والتي تؤدي إلى فقدان الثقة فى المؤسسات، كما تؤدي إلى إستئثار الأغنياء بخدمات المؤسسات العامة بسبب عدم سعى المؤسسات المقدمة للخدمات العامة نفسها لتحقيق نفاذ الفقراء للخدمات، ومن ثم إفقارهم وإبعادهم بصورة أكبر لعدم توافر ضغوط تدفعهم لخدمة الفقراء.
 
وقد تستحق محاربة الفساد نظرة أعمق. فإدارة الدولة لمنع الفساد علم يقوم على إيجاد نظام متكامل للمسئولية والرقابة المتبادلة يضمن أن يكون أداء كل مؤسسة حكومية متابَع حتى أدنى مستويات المؤسسات وفق مؤشرات واضحة لقياس الرضا المجتمعى ووقوع المنافع على الفئات المستهدفة بها، بحيث لا يستقل أى طرف حكومى بالسطوة والقوة التى تحميه من طائلة القانون. بناءً على ما سبق، فإن محاربة الفساد تعتبر شرطا رئيسيا لمكافحة الفقر. ولذلك من الممكن تعريف النمو الواقعى المتوازن على أنه استراتيجية لتحقيق النمو تقوم على الدفع بقوانين تحفيزية لنشيط الاقتصاد وخلق فرص العمل مع تحقيق عدالة نفاذ المواطن إلى أدوات اكتساب المهارات وعدالة نفاذه للفرص المختلفة بما يضمن تحقق المساواة فى عوائد التنمية عبر كافة مناطق الريف والحضر، وعبر القطاعات المختلفة.
 
الخلاصة أن مستوى الدخل المنخفض في مصر وتباطوء النمو الاقتصادي وكذلك ضيق الحيز المالي المتاح للحكومة يلقي بعبء دفع عجلة النمو على كاهل القطاع الخاص ولذلك من الضروري على الحكومة  تبني سياسات تحفيزية لدفع النمو. لكن لا بد أن يواكب ذلك تبنيا لبرامج مكافحة الفقر عن طريق محاربة الفساد في المقام الأول والذي يحرم الفقراء من الإستفادة الحقيقية من الموارد المتاحة .ولذلك تحتاج الحكومة للدفع في إتجاه العدالة التوزيعية للإنفاق وتوافر شرط المساعدة على الخروج من الفقر في جوانب الإنفاق الحكومية وكذلك مكافحة تسرب ثمار النمو وفرص المشاركة فيه من أجل الوصول لنموذج واقعى ومتوازن للنمو.

عمر الشنيطي
25 يناير 2014
نُشر هذا المقال على موقع "مصر العربية"

Tuesday, January 21, 2014

الاقتصاد والرومانسية الثورية

من الصعب الجزم بأن أغلب المصريين دعموا ثورة ٢٥ يناير لأنه من الخطأ الوصول لمثل هذا التعميم بدون استفتاء أو استطلاع رأى منهجى، لكن مما لا شك فيه أن تفاعل الكثير من الناس مع الثورة ومطالبها كان مرتفعا فى البداية حين لاح فى الأفق حلم تحريك المياه الراكدة. ولعل مطالب الثورة المتمثلة فى الحصول على الحقوق السياسية والاقتصادية الأساسية من عيش وحرية وعدالة اجتماعية كانت بمثابة خلاصة آمال عوام الناس. لكن بعد مرور ثلاث سنوات، تراجع التأييد لهذه الثورة بعد الفشل فى الحصول على الحقوق السياسية والاقتصادية المتوقعة حتى أصبح بعض ممن أيدوا هذه الثورة سابقا يرونها الآن جزءا من المؤامرة الكونية على مصر وأن من أشعلها وشارك فيها خائن أو عميل أو ساذج وأن مصر لا تحتاج للتغيير ولكن للاستقرار.

فعلى الصعيد السياسى، لم يتحسن وضع الحريات مع تنامى مستوى العنف فى الشارع وتصاعد عدد القتلى والمعتقلين والدخول فى عهد الاتهامات والتسريبات التى قد تطال الجميع. أما على الصعيد الاقتصادى، وهو المقصد من هذا المقال، فإن الوضع الكلى للاقتصاد منذ الثورة لم يتحسن، بل إنه شهد تراجعا على مستوى مؤشراته الأربعة الرئيسية.

أولا: مستوى الدخل: فبعد عدة سنوات من نمو الناتج المحلى بمعدل ٥٪ سنويا فى السنوات التى سبقت ٢٥ يناير، تراجع النمو الاقتصادى منذ الثورة ليحقق متوسط ٢٪ سنويا وهو ما يقارب نسبة زيادة السكان مما يعنى أن متوسط دخل الفرد لم يتحسن منذ الثورة فى أحسن الأحوال، بل قد يكون تراجع بالفعل لو أخذنا فى الاعتبار الزيادة فى أسعار السلع الأساسية. وما يزيد من تعقد المشكلة أن القطاع الخاص يعانى بشدة منذ الثورة بسبب الاضطرابات السياسية فى الأساس وما واكبها من إضرابات عمالية وارتفاع فى سعر الدولار مما أدى إلى تراجع الاستثمارات الخاصة وغلق الكثير من المصانع وكذلك تراجع الاستثمار الأجنبى المباشر مما قلل من مساهمة القطاع الخاص فى النمو الاقتصادى. وقد زاد ذلك من الاعتماد على الحكومة التى تعانى من ضعف القدرة على دفع الاقتصاد حيث إن ٧٧٪ من الموازنة تذهب للرواتب والدعم وخدمة الدين مما يقلل من الحيز المالى المتاح للحكومة لتنشيط الاقتصاد.

ثانيا: فرص العمل: فمعدل البطالة الذى كان فى المتوسط ٩٪ فى السنوات التى سبقت الثورة قد تخطى ١٣٪ بعد الثورة. وهذه الزيادة الكبيرة تزيد من تعقيد الوضع خاصة فى ظل فرص نمو اقتصادى محدودة، كما سبق ذكره، وتضعف من قدرة إيجاد فرص عمل جديدة على المدى القصير. كما أن حركة الإضرابات العمالية المتصاعدة، على الرغم من وجاهة الكثير من مطالبها، قد يكون لها أثر سلبي على فرص العمل على المدى القصير مما يزيد من تعقد المشكلة.

ثالثا: مستوى الأسعار: فعلى الرغم من انخفاض معدل التضخم الإجمالى بعد الثورة لقرابة ١٠٪ مقارنة بمعدل ١٣٪ فى السنوات القليلة التى سبقت الثورة إلا أن الزيادة فى أسعار السلع الرئيسية كانت أكبر من إجمالى معدل التضخم بسبب ارتفاع الدولار وانخفاض المعروض من بعض هذه السلع الأساسية نتيجة صعوبة الاستيراد فى الأساس. وقد أدى ارتفاع أسعار هذه السلع إلى زيادة الضغط على الفئات الأكثر فقرا فى المجتمع. رابعا: العدالة الاجتماعية: على الرغم من إقرار قانون الحدين الأدنى والأقصى للأجور إلا أن توزيع الدخل فى مصر لم يتغير بشكل حقيقى، حيث إن القانون لم يشمل الكثير من الفئات والمؤسسات وكذلك تأثيره على الفئات محدودة الدخل من العمال ضعيف. كما أن الجزء الأكبر من هذه الزيادة سيأكلها التضخم المتصاعد، بينما العدالة الاجتماعية وحقوق العمال بمفهومها الأوسع من تأمين وخدمات صحية وغيرها لم تتحسن. كما أن العمال والمشتغلين بالقطاع غير الرسمى لم تتحسن أحوالهم بل زادت فى الصعوبة بسبب تدهور الوضع الاقتصادى وعدم استدامة الدخل.

بناء على ما سبق، لم يحصل عوام الناس على طموحاتهم الاقتصادية من الثورة. ولكن هل من المنطقى التصور بأن ثورة قامت لإسقاط نظام دام لعقود تمكن أن يصاحبها تحسن اقتصادى على المدى القصير؟ على الأرجح الإجابة: لا، وقد أثبتت الثلاث سنوات الأخيرة أن الحصول على الحقوق السياسية هو عمل شاق ومكلف على أصعدة مختلفة منها الوضع الاقتصادى سواء على مستوى البلد أو الأفراد. وتصور حدوث عكس ذلك يمكن اعتباره شكلا من أشكال الرومانسية الثورية. ويمكن الاستنتاج أن نسبة ليست بالقليلة من عوام الناس الذين تفاعلوا مع الثورة فى البداية كانوا يحلمون بالحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية فى نفس الوقت، لكنهم لم يتوقعوا ولم يكونوا على استعداد حقيقى لتقديم التضحيات المطلوبة. ولذلك بعد ثلاث سنوات من التدهور الاقتصادى، فقد الكثير منهم الاهتمام بالثورة وعادوا للمطالبة بالاستقرار والحد الأدنى من الدخل الدائم.

الخلاصة أن توقع الحصول على المطالب السياسية والاقتصادية للثورة فى وقت واحد وعلى المدى القصير يعتبر من عوارض الرومانسية الثورية. وكثير من عوام الناس الذين تعاطفوا مع الثورة وحلموا بالحصول على مطالبهم، ثم ما لبثوا أن سخطوا على الثورة بعد ذلك، كانوا على الأرجح غير مستعدين أو حتى مدركين لحجم التضحيات المطلوبة. وقد فوجئ هؤلاء بتراجع جوانب الاقتصاد المختلفة، من حيث مستوى الدخل وفرص العمل ومستوى الأسعار والعدالة الاجتماعية، ففضلوا الاستقرار على الثورة. للتغيير الحقيقى ثمن باهظ يجب أن يكون المجتمع فى عمومه، وليس فقط مجموعة محدودة من الشباب الحالم، على استعداد لتحمل الحد الأدنى من هذه التكلفة.

عمر الشنيطي
21 يناير 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, January 11, 2014

هل كانت المشكلة في العدالة الإجتماعية؟

بعد مرور ثلاث سنوات على ثورة ٢٥ يناير، ربما من المفيد النظر في حقيقة مطالب هذه الثورة. فقد خرج الناس في الشوارع مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الإجتماعية مما يدل على تدهور الوضع الاقتصادي قبيل هذه الثورة خاصة للفئات الأكثر فقرا في المجتمع والتي كانت تشعر بالظلم الإجتماعي. ولذلك علت الأصوات المطالبة بالعدالة الإجتماعية حتى أصبح لا يخلو برنامج لحزب أو مرشح من قضايا مثل رفع الحد الأدني وفرض حد أقصى للأجور وكذلك فرض ضرائب تصاعدية وغيرها. لكن هل حقا كانت المشكلة في العدالة الإجتماعية؟
 
ويتم قياس مستوى العدالة الإجتماعية بناء على توزيع الدخل على الشرائح المخلتلفة في المجتمع. ويستخدم مقياس جيني الإحصائي (Gini Coefficient) في ذلك حيث يوضح مستوى توزيع الدخل على الشرائح المختلفة والحد الأدنى لهذا المقياس صفر(٠) حينما يحصل الجميع على نفس مستوى الدخل ويصل المجتمع للمساواة القصوى. بينما الحد الأقصى واحد (1) وهي حالة غياب التوزيع تماما وحصول  شخص واحد في المتجمع على كامل الدخل. من الصعب أن يسجل المقياس في الواقع الحد الأدنى أو الأقصى ولذلك يكون دائما أكثر من (0) وأقل من (1). وكلما ارتفعت قيمة هذا المقياس في المجتمع، كلما دل ذلك على غياب العدالة الإجتماعية في توزيع الدخل.
 
ما أن يبدأ الحديث عن العدالة الإجتماعية إلا ويتم الإستشهاد بتجارب دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين. لكن إذا قمنا بمقارنة مصر بهذه الدول، نجد أن مقياس جيني في مصر في ٢٠٠٨ كان أقل من مستواه في البرزيل والأرجنتين (رسم بياني ١). والجدير بالذكر أيضا أنه في نفس العام قد حصلت الشريحة الأعلى من الدخل في مصر على حصة من الدخل أقل مما حصلت عليه نفس الشريحة في البرازيل والأرجنتين، بينما حصلت الشريحة الأقل من الدخل في مصر على حصة من الدخل أعلى مما حصلت عليه نفس الشريحة في البرازيل والأرجنتين (رسم بياني ٢). ولذلك نستطيع أن نخلص أن مستوى العدالة الإجتماعية في مصر أفضل من بعض دول أمريكا اللاتينية صاحبة التجارب الرائدة في العدالة الإجتماعية.
 
لكن إذا نظرنا من زاوية أخرى، نجد أن متوسط دخل الفرد في مصر يبلغ ربع متوسط دخل الفرد في البرازيل والأرجنتين (رسم بياني ٣). ومتوسط دخل الفرد هو مؤشر هام على القدرة الشرائية وانخفاضه  في مصر يعني أن الشريحة الأقل دخلا قد تحصل على نسبة من إجمالي الدخل أعلى من مثيلتها في البرازيل والأرجنتين، لكن ما تحصل عليه في المجمل يكون منخفضا بحيث أنه قد لا يكفي لتغطية الحاجات الرئيسية ولذلك قد لا تجد لقمة العيش فخرجت للمطالبة بالعيش قبل أية مطالب سياسية.
 
وللتبسيط يمكن تخيل عشرة أفراد معهم سلة بها عشرة أرغفة من العيش والحد الأدنى لسد الجوع هو رغيف واحد للفرد. في حال توزيع العيش على الأفراد، فإن متوسط نصيب الفرد سيكون رغيفا واحدا. لكن في حالة عدم تساوي التوزيع حتى ولو بنسبة بسيطة، فإن البعض سيحصل على ما دون الرغيف الواحد، ولذلك لا يستطيع سد جوعه. بينما إذا كانت السلة بها أربعين رغيفا وتم توزيعهم على العشرة أفراد وحتى بإفتراض التباين الكبير في التوزيع، فإن متوسط نصيب الفرد سيكون أربعة أرغفة ونصيب أقل فرد على الأرجح لن يقل عن رغيف واحد.
 
ولذلك فإن انخفاض مستوى الدخل هو المشكلة الحقيقية مقارنة بالعدالة الإجتماعية والتي انتشرت المطالبة بها منذ الثورة على الأرجح لسببين: الأول هو إنعدام الثقة في البيانات الرسمية بما فيها بيانات توزيع الدخل وزاد على ذلك ما تنشره تقارير أجنبية عن الثروت الطائلة لرموز نظام مبارك خارج البلد. كما أن ما رآه عوام الناس من البزخ من تلك الرموز قبيل إندلاع الثورة يؤكد وجود فجوة إجتماعية حقيقية حتى لو عجزت عن إدراكها البيانات الرسمية. أما السبب الثاني فهو مرتبط بالدور المحوري الذي لعبه التيار اليساري في الثورة والأهم من ذلك الإحتجاجات العمالية التي سبقت الثورة وكانت بمثابة تمهيدا لها، وهو ما فرض قضية العدالة الإجتماعية على الساحة حتى أصبح الجميع من بعدها يتبنى هذا التوجه.
 
إذا كانت المشكلة هي مستوى الدخل، فإن الأولى تبني سياسات تدفع النمو وترفع مستوى الدخل قبل الدفع في إعادة توزيع الدخل حيث أن الدفع بشراسة في إتجاه العدالة الإجتماعية خاصة في اقتصاد راكد يؤثر سلبا على مستوى النشاط الاقتصادي وفرص التوظيف والتي يتحكم فيها القطاع الخاص مما قد يؤدي إلى إضعاف وضع العمال والفئات الأكثر فقرا في المجتمع ويؤثر سلبا عليهم في النهاية، وإن كان ذلك لا ينفي أهمية الجهود المبذولة لتحسين وضع العمال والفئات التي تعاني في المجتمع .لكن يجب أن لا يتم ذلك بشكل يؤدي إلى هدم المعبد على من فيه، بما فيهم العمال.
 
الخلاصة أن مقارنة مصر ببعض دول أمريكا اللاتينية صاحبة التجارب الرائدة في العدالة الإجتماعية يوضح أن المشكلة في مصر ليست في العدالة الإجتماعية وتوزيع الدخل، لكنها تكمن في انخفاض مستوى الدخل. ولذلك من الضروري على التيارات السياسية ومتخذي القرار تبني سياسات اقتصادية تعمل على تحفيز النمو ورفع مستوى الدخل قبل الدفع بقوانين العدالة الإجتماعية والتي قد يكون لها أثرا سلبيا على المدى القصيرعلى من كانت هذه الإجراءات تهدف لتحسين وضعهم في الأساس





عمر الشنيطي
11 يناير 2014
نُشر هذا المقال على موقع "مصر العربية"

Saturday, January 4, 2014

٢٠١٤.. والرهان الاقتصادى الأكبر

إن الحكومة الحالية فى موقف لا تحسد عليه، فقد ورثت اقتصادا يعانى من مشكلات هيكلية زادت حدتها فى السنوات الثلاث الأخيرة. كما تعانى من وضع انتقالى غير مستقر بعد عزل أول رئيس مدنى منتخب مما خلق معارضة شرسة تشتعل جذوتها فى الجامعات وتعيق الحكومة فى إقرار وضع سياسى مستقر. وتواجه هذه الحكومة اتهامات بالعمالة والأيادى المرتعشة من حلفائها داخليا واتهامات بجرائم حرب خارجيا. كما تغيرت الخريطة الإقليمية أمامها فبعد ما كانت قطر وتركيا هما الملجأ والملاذ، أصبحت السعودية والإمارات يقومان بهذا الدور، خصوصا مع تعذر الاعتماد على صندوق النقد الدولى.

ويتضح أن الحكومة تتعامل مع الوضع على مرحلتين: تبدأ بمرحلة توسعية ثم يعقبها مرحلة انكماشية. وقد بدأت الحكومة منذ توليها السلطة بعد أحداث ٣٠ يونيو انتهاج سياسة اقتصادية توسعية تهدف لزيادة معدلات النمو وخلق فرص عمل جديدة من خلال التوسع فى السياسة المالية بزيادة الإنفاق والاستثمار الحكومى. كما عمل البنك المركزى على تطبيق سياسة نقدية توسعية بخفض سعر الفائدة. تبنى هذه السياسة هو توجه سياسى بالأساس لإنعاش السوق وإحتواء غضب الناس من ضيق الوضع الاقتصادى، لكن هذا التوجه له مخاطر كبيرة من حيث ارتفاع عجز الموازنة وزيادة التضخم.

وللتعامل مع هذه المخاطر، تتبنى الحكومة مجموعة من الإجراءات كالاعتماد على المساعدات الخليجية الكبيرة والتى تتكون من منح وقروض ميسرة ومواد بترولية تعمل بدورها على سد جزء من عجز الموازنة مباشرة، وكذلك تخفيض فاتورة الدعم وتوفير مصادر تمويل بفائدة منخفضة لتقليل بند خدمة الدين. كما أن السياسية النقدية التوسعية واعتماد الحكومة على إصدار أذون خزانة قصير الأجل لتمويل عجز الموازنة يعمل بدوره على خفض سعر الفائدة على الدين الحكومى وبالتالى خفض بند خدمة الدين. بالإضافة لذلك قامت الحكومة بفك وديعة حرب الخليج، والتى تعتبر من خطوط الدفاع الأخيرة للاقتصاد، لسد جزء من عجز الموازنة مباشرة.

وبذلك قد تستطيع الحكومة خفض عجز الموازنة لما دون ٢٠٠ مليار جنيه، أقل من ١٠٪ من إجمالى الناتج المحلى وهو مستوى أقل من عجز العام المالى الماضى والذى وصل إلى ٢٤٠ مليار جنيه، ١٣٫٨٪ من إجمالى الناتج المحلى وكان من المتوقع أن يتفاقم العجز بشكل كبير فى العام المالى الحالى لولا المساعدات الخليجية وفك الوديعة فى الأساس. كما يعمل البنك المركزى على خفض طباعة النقود نسبيا لإحتواء التضخم. وهذه السياسة من المفترض أن تؤدى إلى انتعاش نسبى فى الاقتصاد بدون تأثير سلبى على عجز الموازنة والتضخم.

لكن لا تستطيع الحكومة انتهاج هذه السياسة طويلا بسبب قلة الموارد المحلية واستحالة استمرارية المساعدات الخليجية على هذا النحو. ولذلك من المتوقع أن تغير الحكومة توجهها فى منتصف ٢٠١٤، بعد تمرير الدستور وانتخاب مجلس شعب ورئيس للجمهورية، ليكون التوجه انكماشيا بعض الشىء من أجل السيطرة على عجز الموازنة بشكل مستدام. لذلك من المتوقع انخفاض الاستثمار الحكومى وإعادة هيكلة الدعم. ويفترض أن يبقى البنك المركزى على مستوى سعر الفائدة بدون المزيد من التخفيض وهو ما سيساعد على احتواء التضخم. كما تأمل الحكومة الوصول لاستقرار سياسى وأمنى بحلول منتصف العام يؤدى إلى تحفيز الاستثمار الخاص المحلى والأجنبى ليكون بديلا عن الاستثمار الحكومى فى دفع عجلة النمو والذى سيتأثر إيجابا بانتعاش حركة السياحة التى بدأت فى التعافى.

على الرغم من ذلك، ستظل الحكومة فى حاجة لتمويل على الأرجح من خلال صندوق النقد والذى سيكون الاتفاق معه متاحا بعد وجود مؤسسات منتخبة. كما أن المؤشرات الكلية التى تهدف الحكومة لتحقيقها فى العام المالى الحالى وكذلك الإجراءات التمهيدية لإعادة هيكلة الدعم ستساعد فى التفاوض مع الصندوق. وسيساهم قرض الصندوق فى تمويل احتياجات الحكومة فى العام المالى القادم، والأهم من ذلك سيمنح الاقتصاد شهادة ثقة ستساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية. وهذه السياسة فى المجمل من المفترض أن تعيد الاقتصاد إلى سابق عهده من حيث مستوى النمو والاعتماد على الاستثمارات الخاصة فى دفع عجلة الاقتصاد.

هذه الرؤية تبدو وكأنها الحل السحرى للأزمة الاقتصادية التى كانت ستنفجر لولا المساعدات الخليجية الكبيرة وفك الوديعة، لكنها لا تخلو من المخاطر. فعلى الصعيد الاقتصادى، قد يخرج عجز الموازنة فى العام المالى الحالى عن السيطرة كما حدث فى العام المالى الماضى. كما أن المستثمرين قد يحجمون عن الاستثمار فى مصر لعدة سنوات حتى تستقر الأوضاع سياسيا وأمنيا بشكل تام. وعلى الصعيد السياسى، قد لا تنجح محاولات السيطرة الأمنية خصوصا مع تصاعد حدة المظاهرات فى الجامعات وتزايد مستويات العنف. أما على الصعيد الاجتماعى، فإن قرض الصندوق وما يستتبعه من إجراءات قد تكون لها آثار سلبية على الفئات الأكثر فقرا فى المجتمع والتى تفاقمت مشكلاتها مؤخرا بعد قرار التحفظ على أموال بعض الجمعيات ذات الدور الكبير فى المجتمع.

الخلاصة أن الحكومة فى وضع لا تحسد عليه سياسيا واقتصاديا ومن المتوقع أن تدير الاقتصاد فى ٢٠١٤ من خلال مرحلتين. المرحلة الأولى تعتبر استمرارا للسياسة التوسعية المتبعة منذ ٣٠ يونيو لدفع النمو وإيجاد فرص عمل جديدة بالاعتماد على المساعدات الخليجية الكبيرة ووديعة حرب الخليج. ثم تأتى المرحلة الثانية بعد استكمال المؤسسات الدستورية فى منتصف العام بسياسة انكماشية بعض الشىء والاعتماد على قرض صندوق النقد لكسب شهادة ثقة للاقتصاد تشجع الاستثمار الخاص المحلى والأجنبى لدفع عجلة الاقتصاد. هذا التصور قد يبدو سحريا، لكن تواجهه العديد من التحديات على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى، مما يجعل ٢٠١٤ عام الرهان الاقتصادى الأكبر.

عمر الشنيطي
4 يناير 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"