Friday, July 22, 2016

وضع اقتصادى حرج وقرارات أكثر حرجا

لا يكاد يخلو مجلس حتى فى المصيف من الحديث عن الوضع الاقتصادى الحرج. ولا تقتصر الشكوى على محدودى الدخل بل يشاركهم فيها ميسورو الحال وحتى بعض رجال الأعمال. فلقد سجل التضخم ارتفاعات ملحوظة تقرها الإحصاءات الرسمية، ومع عوائق الاستيراد المتعددة، تراجع توافر الكثير من المنتجات الأساسية فى السوق بشكل ملحوظ. وفى خضم صعوبات الحياة اليومية، يزداد سعر صرف الدولار بشكل هيستيرى حتى أصبح السعر المتداول فى السوق الموازية أعلى بقرابة ٣٠٪ عن السعر الرسمى، مما يوضح حجم الأزمة ويضفى بظلاله على تراجع رغبة المستثمرين على الاستثمار، وتفضيل الانتظار حتى تتضح الرؤية السياسية والاقتصادية للحكومة بشكل قاطع.

ما يشعر به الناس من تدهور للوضع الاقتصادى حقيقى وليس مبالغ فيه. من وجهة نظر استراتيجية، يمكن تحديد مشكلتين أساسيتين؛ الأولى مرتبطة بالموازنة العامة والتى حققت معدلات عجز مرتفعة جدا إذا قورنت بالمستهدفات. وإذا أخذنا فى الاعتبار الانخفاض الحاد فى أسعار البترول، والذى ساهم فى خفض بند الدعم، فإن عجز الموازنة الحقيقى يعتبر حرجا، ومن المتوقع أن يستمر العجز فى التفاقم ما لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة. أما المشكلة الثانية فترتبط بعجز الميزان التجارى حيث أصبحت مصر تستورد ثلاثة أضعاف ما تصدره. فى الماضى كان العجز أقل من الوضع الحالى، ولكن الأهم كان تدفق العملة الصعبة من مصادر مختلفة بينما حاليا لا يتوقع زيادة فى إيرادات قناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج فى تراجع كبير مع اشتعال الدولار، بينما الاستثمارات الأجنبية والسياحة متراجعة بسبب الوضع السياسى والأمنى، مما يزيد من حدة أزمة الدولار.

تلك التحديات ليست جديدة على الاقتصاد المصرى، لكن الجديد فى الأمر أن تلك التحديات وصلت لمرحلة حرجة وعلى وشك الخروج عن السيطرة لو لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة. الأعوام الثلاثة الماضية شهدت تغيرات كبيرة؛ ففى البداية اعتمد الاقتصاد على الدعم الخليجى السخى، لسد الفجوة التمويلية، لكن سرعان ما كان على الدولة اللجوء لبدائل أخرى، وهو ما تمثل فى توسع البنك المركزى فى طباعة النقد واستخدامه لشراء السندات الحكومية، لتغطية عجز الموازنة. إن التوجه لطباعة النقد يساهم فى حل تمويل عجز الموازنة، لكن ينتج عنه موجة تضخم كبيرة تفقد الأفراد الثقة فى الجنيه، وتدفعهم للمزيد من المضاربة على الدولار ويفاقم أزمة العملة، حيث لا يستطيع البنك المركزى طباعة الدولار كما يفعل بالجنيه. بمرور الوقت تزداد تكلفة اقتراض الحكومة مع توقع السوق لمزيد من التخفيض للجنيه، مما ينعكس على زيادة بند خدمة الدين وزيادة عجز الموازنة بالتبعية مما يجعل توجه طباعة النقد ليس مستداما ويدخل الاقتصاد فى دائرة مفرغة.

للخروج من الدائرة المفرغة؛ توجهت الحكومة للاقتراض من البنك الدولى وبنوك تنموية أخرى لسد الفجوة التمويلية وبث الثقة فى الأسواق، لكن وضع الاقتصاد الحرج يحتاج لأكثر من ذلك. ويبرز فى هذا الصدد توجه الدولة أخيرا للتنويه والإعلان عن العديد من الإجراءات الاقتصادية الحاسمة كضرائب استهلاكية، ورفع متوقع لأسعار الطاقة وأسعار العديد من الخدمات العامة. بالإضافة لذلك، أجرى محافظ البنك المركزى قبل العيد مباشرة، حوارا تم نشره فى عدة صحف اقتصادية، صرح فيه عن رأيه بأن الدفاع عن الجنيه كان خطأ جسيما، مما دفع الدولار للاشتعال فى السوق الموازية تحسبا لتخفيض محتمل. وبعد ارتفاع الدولار من ١٠٫٩٠ لما يزيد عن ١١٫٥٠ لم يقم البنك المركزى بتخفيض الجنيه حتى وقت كتابة المقال.

يمكن النظر لتصريحات البنك المركزى، على أنها إشارة على تخفيض محتمل للجنيه، وهو ما توقعه البعض لكن النظر لتلك التصريحات بنظرة أشمل والأخذ فى الاعتبار التصريحات الحكومية المتكررة عن إجراءات اقتصادية مرتقبة، تجعل من الأوقع قراءة تصريحات البنك المركزى على أنها إعلان عن برنامج إصلاح اقتصادى متكامل، لضبط الوضع المالى للدولة. ومن المنطقى لجوء مصر لصندوق النقد للحصول على قرض كبير، بما يكفى لتعزيز الاحتياطى وتهدئة السوق الموازية والأهم من ذلك بث الثقة على قدرة الاقتصاد على التعافى. الجدير بالذكر أن مصر قامت برفع حصتها أخيرا فى صندوق النقد، مما يتيح لها زيادة حجم الاقتراض لقرابة ٩ــ١٠ مليارات دولار.

البرنامج المتوقع سيستهدف السيطرة على عجز الموازنة وبناء الثقة فى الاقتصاد والجنيه على وجه الخصوص لتعجيل تدفق العملة الصعبة من خلال أربعة محاور. الأول؛ رفع أسعار الطاقة سواء البنزين أو الغاز للاستخدامات المختلفة ورفع أسعار الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، وكذلك رفع أسعار المواصلات المدعمة مثل القطارات ومترو الأنفاق. المحور الثانى يختص بتطبيق ضريبة القيمة المضافة لزيادة الحصيلة الضريبية ومنع التهرب الضريبى. أما المحور الثالث فيتعلق بإيجاد نظام مرن لسعر الصرف يعكس السعر الحقيقى للجنيه ويوفر العملة الصعبة، مما سيتطلب جهدا كبيرا وطريقة تفكير مختلفة لكن بلا شك سيعنى المزيد من تخفيض الجنيه على المدى القصير، ومن المتوقع أن يقوم البنك المركزى برفع سعر الفائدة لأكثر من مرة مع تلك الإجراءات. وأخيرا المحور الرابع يرتبط بزيادة إيرادات الدولة عن طريق بيع بعض الأصول العقارية غير المستغلة أو الشراكة مع مطورين محليين أو عرب، بالإضافة للاستعانة بشركات أجنبية لخصخصة إدارة بعض الأصول والمرافق.

إن المحاور الأربعة تهدف لزيادة إيرادات الدولة بشكل سريع، مما يساعد على خفض عجز الموازنة لمستويات مستدامة وتغطية تكاليف المرافق العامة بدون خسائر، مما يساعد على تحسين المناخ العام وإحداث استقرار فى سعر الصرف وإيجاد فرص للاستثمار والشراكة مع الدولة، مما يزيد من العملة الصعبة المتدفقة على الاقتصاد. لكن تلك الإجراءات ستؤدى لموجة تضخمية كبيرة جدا أكبر من الموجات السابقة التى ما يزال يشكون منها الناس مما سيكون لها آثار اقتصادية واجتماعية جمة. ومن المتوقع أن يتم الاتفاق على قرض صندوق النقد إذا ما تبنت الحكومة تلك الإجراءات الحاسمة، لكن ليس من المنطقى توقع أن يؤتى برنامج الإصلاح الاقتصادى أثره فى معزل عن تغيير سياسى وأمنى، يضمن تغير مستدام، فالتدهور الاقتصادى مرتبط فى الأساس بالمناخ السياسى والأمنى.

عمر الشنيطى
 22 - يوليو - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Sunday, July 10, 2016

فى ظلال البريكسيت

شهد الأسبوعان الماضيان جدلا كبيرا بسبب تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبى، وهو ما بات يعرف بـ«البريكسيت». هذا التصويت الذى دعا إليه كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، وذلك لم يكن بسبب وجود ضغط كبير لإجرائه، لكن كاميرون كان يريد حسم الأمور داخل حزبه بهذا التصويت والذى كان من المتوقع أن يمر بسلام ببقاء بريطانيا، كما أشارت استطلاعات الرأى. لكن جاء التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وهو ما كان بمثابة الزلزال على مستوى الاقتصاد البريطانى والأوروبى، بل امتد أثره ليشمل الأسواق العالمية.

الآثار الأولية للبريكسيت تشير إلى صدمة الأسواق المالية والتى لم تتوقع نتيجة التصويت واعتبرت بقاء بريطانيا أمرا محسوما، فجاءت النتيجة لتعصف بالجنيه الاسترلينى والذى فقد ما يزيد على عشر قيمته فى عدة ساعات، كما انخفضت بورصة بريطانيا بشكل حاد فى ظل نزيف كبير لأسهم البنوك البريطانية التى كانت تستفيد من وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبى مما يتيح للندن لعب دور مركزى فى الاقتصاد الأوروبى والعالمى. لم تقتصر الهزة الاقتصادية على بريطانيا بل شملت الأسواق الأوروبية والتى نزفت بالتبعية، كما تراجع اليورو فى ظل مخاوف على مستقبل الاتحاد وإن كان معدل الخسائر أقل من النزيف البريطانى. هذه الهزة وصلت للأسواق العالمية، والتى خسرت ما يزيد على تريليون دولار من قيمتها السوقية فى أيام معدودات خوفا من أزمة اقتصادية عالمية جديدة.

لم تقتصر الخسائر على الجانب الاقتصادى فقط بل امتدت للجانب السياسى، والذى أصبح تشوبه العديد من المخاطر. فمع نتيجة التصويت، لم يجد كاميرون حلا إلا تقديم استقالته بعد أن دفع بريطانيا والاتحاد الأوروبى لمأزق حرج كان يمكن تجنبه. لكن استقالة كاميرون لم تكن كافية حيث إن فقدان الثقة عمت فى الأحزاب والحياة السياسية بشكل عام. من ناحية أخرى، أعلنت رئيسة وزراء اسكتلندا عن نيتها إجراء استفتاء على الاستقلال عن المملكة المتحدة حتى تستطيع البقاء داخل الاتحاد الأوروبى. كما أشارت إيرلندا الشمالية عن نية مشابهة. وانقلب السحر على الساحر، فالمملكة المتحدة التى صوتت على الخروج من الاتحاد الأوروبى أصبحت تواجه احتمالات خروج اسكتلندا وأيرلندا الشمالية من المملكة المتحدة.

أما الاتحاد الأوروبى فأصبح يواجه حمى الانفصال، حيث يتصور أن تقوم عدة دول أخرى فى الاتحاد بالتصويت على الخروج رغبة فى الاستقلال بالسياسة الاقتصادية والبعد عن المواقف السياسية الموحدة. ولعل الخوف من تلك العدوى هو ما دفع قادة الاتحاد للإسراع فى خروج بريطانيا من الاتحاد. ما يزال البريكسيت أمرا جديدا على بريطانيا والعالم. وعلى الرغم من حالة الندم التى عبر عنها بعض الذين صوتوا بالخروج ورغبتهم فى إعادة التصويت إلا أن موقف قادة الاتحاد الأوروبى وكذلك كاميرون يشير لضعف احتمالية إعادة التصويت وأن على العالم التعايش مع ذلك. سيتطلب خروج بريطانيا وقتا طويلا قد يمتد لعدة أعوام، لكن بعد حالة الهلع فى الأيام الأولى بدأت الأسواق فى الهدوء وإدراك أن البريكسيت لا يعنى بالضرورة أزمة مالية عالمية جديدة.

بعيدا عن حجم التأثير، من المفيد النظر فى أسباب النتيجة المفاجئة للتصويت. أحد التفسيرات يرجع السبب لاعتراض قطاع من الشعب على سياسة الحكومة الاقتصادية وارتفاع البطالة التى يمكن إرجاعها من وجهة نظرهم لانفتاح بريطانيا على أوروبا مما أدى لتدفق العمالة من شرق أوروبا للحصول على الوظائف على حساب البريطانيين. وكذلك اعتراض تلك الفئة على التكلفة الكبيرة التى تتحملها بريطانيا نتيجة ارتباطها بالاتحاد كما روج لها المنادين بالخروج. هناك تفسير آخر يرتبط بسياسة الاتحاد فى قضية اللاجئين واعتراض بعض البريطانيين عليها، بينما يأتى تفسير ثالث ركز على البعد الاجتماعى، حيث تشير الاحصاءات إلى أن غالبية كبار السن صوتوا بالخروج من الاتحاد، بينما غالبية الشباب صوتوا للبقاء، وهو ما يعكس خلافا كلاسيكيا بين جيل كبار السن الذى يفضل ما اعتاد عليه وجيل الشباب الذى يرجح الانفتاح على الثقافات الأخرى.

وانقسم المحللون محليا فى تقييم أثر البريكسيت على الاقتصاد المصرى بين متفائل لا يرى أى أثر يذكر ومتشائم يرى أثرا سلبيا كبيرا. فى ظل اقتصاد عالمى مترابط، يصعب افتراض أن الاقتصاد المصرى منعزل عما يحدث ويمكن تحليل أثر البريكسيت من زاويتين. الأولى ترتبط بطبيعة الأثر حيث يفترض أن يكون الأثر غير مباشر لأن مصر ليست جزءا من الاتحاد الأوروبى ولذلك لن يكون الأثر عليها مثل حال دول أوروبية كإسبانيا واليونان. لكن ما يزال الاقتصاد المصرى مرتبط بالاقتصاد العالمى ويتأثر به ولعل الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨ كانت خير دليل على ذلك حيث تأثر الاقتصاد المصرى بتلك الهزة التى ضربت الاقتصاد العالمى. من المهم إدراك أن الاتحاد الأوروبى هو الشريك التجارى الأكبر لمصر سواء فيما يخص الصادرات والواردات أو السياحة. كما أن الشركات الأوروبية خاصة فى مجال البترول وتوليد الطاقة تعتبر أكبر مستثمر أجنبى فى السوق المصرى. ولذلك ما ستشهده أوروبا نتيجة البريكسيت سيكون له انعكاسات على الاقتصاد المصرى. بالإضافة لذلك سيكون لتباطؤ الاقتصاد الأوروبى أثرا على أسعار البترول مما سيكون له تأثيرات متباينة على الاقتصاد سواء من إحجام الاستثمارات من ناحية وانخفاض عجز الموازنة من ناحية أخرى.

أما الزاوية الثانية فتتعلق بحجم ذلك الأثر حيث يتوقع أن يكون محدودا بسبب حالة الاقتصاد الحالية، حيث سجلت الاستثمارات الأجنبية مستويات متواضعة أخيرا نتيجة الوضع الاقتصادى والسياسى. أما السياحة فهى فى أسوأ أوضاعها نتيجة الوضع الأمنى مما يجعل من الصعب أن تتدهور الاوضاع أكثر من ذلك نتيجة البريكسيت. لكن الخسارة الحقيقية تكمن فى انخفاض فرص التعافى للاقتصاد المصرى على المدى القصير والمتوسط مع تذبذب الاقتصاد العالمى.

سيكون للبريكسيت أثر كبير على الاقتصاد الأوروبى والعالمى والاقتصاد المصرى ليس فى معزل عن ذلك وإن كان الأثر على الاقتصاد المصرى سيكون محدودا، وكأن لسان حاله يقول: «لا يوجد الكثير لأخسره على أى حال»، لكن علينا نسيان فكرة التعافى الاقتصادى لفترة ليست بالقصيرة وهو خبر سيئ للمتفائلين بينما أمر منطقى للواقعيين.
عمر الشنيطى
 8 - يوليو - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"