Saturday, October 26, 2013

عن التضخم والاقتصاد غير الرسمى

كنت قد كتبت مقالا منذ أسبوعين عن التضخم «ارتفاع الأسعار» الذى تشهده مصر وأسبابه وتوقعاته المستقبلية. وبعد نشر المقال، تلقيت اتصالا من رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وهى الجهة المسئولة عن حساب التضخم، معاتبا على ما ذكرته من أن الكثير من الاقتصاديين يشككون فى دقة معدلات التضخم الرسمية. وبعد مناقشة فنية طويلة عن الطريقة المتبعة لحساب التضخم ومدى الحرص على دقة البيانات من ناحية وكذلك التحفظات على المعدلات الرسمية المعلنة من ناحية أخرى، قام رئيس الجهاز مشكورا بدعوتى لزيارة الجهاز والتعرف على تفاصيل طريقة جمع البيانات وحسابها.

وعلى الرغم من غرابة الموقف فى بداية الأمر إلا أنه بمثابة علامة جيدة على اهتمام المسئولين بالجهاز ورغبتهم فى التواصل مع المجتمع. وبالفعل قمت بالزيارة والتعرف على الكثير من التفاصيل الفنية وكذلك مناقشة رئيس الجهاز فى طرق جمع البيانات وتحليلها حيث يقوم الجهاز بجمع أسعار آلاف السلع والخدمات بشكل شهرى من ١٠٠٨٥ مصدرا بالحضر و٤٣٣٧ مصدرا بالريف من خلال مندوبين يقومون بزيارات ميدانية لهذه المصادر ويتم التأكد من صحة هذه البيانات بأشكال مختلفة ثم جمعها وتحليلها طبقا للمعاير المتبعة دوليا وهو ما شهدت به عدة مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولى الذى قام بفحص وتقييم الأسلوب المتبع فى الجهاز منذ عدة سنوات.

وعلى الرغم مما سبق ذكره من مجهود كبير وتحرٍ للدقة فى جمع البيانات وكذلك المعايير الدولية المتبعة لتجميع وتحليل الأرقام من قبل الجهاز إلا أن العديد من الاقتصاديين ومراكز الدراسات الاقتصادية داخل مصر وخارجها قد انتقدوا معدلات التضخم الرسمية لأسباب فنية متعلقة بمصادر جمع البيانات وطريقة الجمع والأوزان النسبية للمنتجات المختلفة فى سلة السلع والخدمات وغيرها من الأسباب. كما أن هناك تحفظا مستقبليا خاصا بفرض التسعيرة الجبرية والذى قد يجبر التجار على الالتزام بالسعر الرسمى ظاهريا لكن قد يؤدى إلى الامتناع عن البيع وظهور سوق موازية لهذه المنتجات مما سيؤدى إلى ارتفاع حقيقى فى الأسعار وإن كانت البيانات الرسمية ستعجز عن رصده. وقد تقبل رئيس الجهاز هذا النقد بصدر رحب حينما حدث النقاش حول هذه الدراسات والتى قمت بجمعها وإعطائه نسخة منها للاطلاع والأخذ فى الاعتبار مستقبلا.

لعل هذه الواقعة تأخذنا للحديث عن أحد أهم سمات الاقتصاد المصرى وهى كبر حجم «الاقتصاد غير الرسمى». يشمل الاقتصاد غير الرسمى الأنشطة الاقتصادية التى لا ترصدها البيانات الرسمية والتى لا تدخل فى حساب الناتج المحلى ولذلك لا يتم تحصيل ضرائب عليها. وينقسم إلى نوعين من الأنشطة فى الأساس، الأول يشمل ما لا تدركه البيانات الرسمية كليا مثل الباعة الجائلين وسائقى التاكسى والبناء المخالف للقانون الذى انتشر مؤخرا وغيرها من المهن والأنشطة الأخرى، بينما الثانى يشمل ما تدركه البيانات الرسمية جزئيا مثل قيام العديد من المؤسسات والأفراد بعدم الإفصاح عن جزء من نشاطهم من باب التهرب الضريبى.

لا يكاد يخلو بلد من وجود اقتصاد غير رسمى حتى الدول الغربية المتقدمة، لكن مصر كمثيلاتها من الدول النامية تتسم بحجم اقتصاد غير رسمى كبير. وعلى الرغم من صعوبة تحديد حجمه إلا أن العديد من الدراسات قامت بتحليل هذا القطاع ومحاولة تقدير حجمه وقد أشارت أغلب هذه الدراسات إلى أن حجمه فى مصر قد يتراوح بين ثلث ونصف حجم الاقتصاد الرسمى، مما يعنى أن الاقتصاد غير الرسمى يشكل ربعا إلى ثلث إجمالى النشاط الاقتصادى (الاقتصاد الرسمى زائد الاقتصاد غير الرسمى). وإذا كان هذا الحجم الكبير من النشاط الاقتصادى يتم بصورة غير رسمية، فمن البديهى توقع عدم قدرة البيانات الرسمية على رصد هذه الأنشطة وبالتالى عدم دقة الكثير من المؤشرات الاقتصادية الكلية والتى يأتى على رأسها الناتج المحلى وتوزيع الدخل والبطالة والتضخم وغيرها من المؤشرات.

من ناحية أخرى، وجود اقتصاد غير رسمى كبير الحجم لا يعنى عدم جدوى المؤشرات الرسمية، فهذه المؤشرات يتم حسابها بطريقة صحيحة وطبقا للمعايير العالمية كما سبق ذكره. لكن يجب إدراك أن هذه المؤشرات ترصد الجزء الرسمى من الاقتصاد بدقة، بينما لا تستطيع ذلك فى الجزء غير الرسمى من الاقتصاد. ولذلك من الحكمة التعامل مع المؤشرات الرسمية على سبيل مقارنتها بالفترات السابقة بشكل نسبى لاستخلاص التغيرات الاقتصادية مع العلم أن القيم المطلقة لهذه المؤشرات فى فترة بعينها قد لا تكون معبرة بشكل كامل، وهو ما ينطبق على أغلب المؤشرات الاقتصادية الكلية. فعلى سبيل المثال، تظهر البيانات الرسمية مؤخرا زيادة فى معدلات التضخم وهو ما يتفق مع نتائج مراكز الدراسات المستقلة وما يشعر به المواطن العادى فى حياته اليومية وهو الأهم، لكن الشعور العام أن الزيادة الحقيقية فى الأسعار أعلى مما ترصده المعدلات الرسمية، وهو ما يوضح قدرة المؤشرات الرسمية على رصد التغيرات الاقتصادية وإن كانت القيم المطلقة لهذه المؤشرات ستظل محل جدل.

الخلاصة أن الاقتصاد المصرى يتسم بوجود اقتصاد غير رسمى كبير الحجم قد يشكل ربعا إلى ثلث إجمالى النشاط الاقتصادى. وبسبب طبيعة الاقتصاد غير الرسمى، لا تستطع البيانات الرسمية رصد ما يحدث فى هذا الجزء من الاقتصاد مما يحد من دقة الكثير من المؤشرات الاقتصادية الكلية. ولذلك يجب النظر للمؤشرات الرسمية على سبيل القياس والمقارنة بشكل نسبى بين فترة وأخرى فى المقام الأول أكثر من النظر إلى القيم المطلقة لهذه المؤشرات فى فترة بعينها.


عمر الشنيطي
26 أكتوبر 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, October 12, 2013

التضخم.. أسبابه وتوقعاته

يتحدث الناس عن تدهور الوضع الاقتصادى لكنهم لا يأبهون بمؤشرات الاقتصاد الكلية، بينما يركزون على ما يلمسونه من ظواهر فى حياتهم اليومية، والتى برز منها مؤخرا ارتفاع الأسعار، وهو ما يعرف بالتضخم. يتحدث الناس عن تضاعف أسعار الكثير من السلع والخدمات الأساسية منذ ٢٠١١ مما خفض من القوة الشرائية للمواطنين، وهو ما أشعرهم بالفقر حتى مع ثبات رواتبهم. وبسبب حساسية التضخم وأثره الاجتماعى تأتى محاربته على قائمة أولويات الحكومة، لكن تعقُد الأمر قد يحد من قدرة الحكومة على السيطرة عليه.

التضخم هو معدل الزيادة فى مستوى أسعار السلع والخدمات ويتم قياسه بمقارنة مستوى أسعار سلة من السلع والخدمات الأساسية من فترة لأخرى. يمثل المأكل والمشرب ٤٠٪ والمسكن وما يتبعه من تكلفة الماء والكهرباء ١٨٪ من وزن سلة السلع والخدمات، بينما تمثل باقى السلع والخدمات ما تبقى من وزن السلة فى مصر. وتعلن الحكومة دوريا عن معدلات التضخم والتى تراوحت بين ٩و١٠٪ خلال الثلاثة أعوام السابقة، لكن يشكك الكثير من الاقتصاديين فى دقة هذه الأرقام حيث إنها تأخذ فى الاعتبار الأسعار الرسمية بينما تتجاهل الأسعار الحقيقية الأكثر ارتفاعا مما أدى إلى تضخم كبير فى الأسعار يشعر به الناس وإن كانت البيانات الرسمية لا ترصده.
هناك العديد من الأسباب وراء ظاهرة التضخم يمكن تلخيصها فى ثلاثة أسباب رئيسية:

أولا: الاضطرابات السياسية منذ ثورة يناير ٢٠١١ والتى أدت إلى توقف العمل فى الكثير من المصانع وتراجع الإنتاج، وبالتالى المعروض من المنتجات. كما أدت إلى زيادة المضاربة على أسعار المنتجات خاصة فى ظل تقلب سعر صرف الدولار والذى يؤثر على أسعار العديد من المنتجات الأساسية مما دفع الكثير من التجار لتخزين المنتجات حتى ترتفع الأسعار. صاحب ذلك أيضا احتجاجات واسعة نتج عنها رفع رواتب العمال والموظفين وزيادة تكلفة الإنتاج. كما قام الكثير من التجار برفع الأسعار بنسبة أعلى من زيادة التكلفة تحسبا لانخفاض الجنيه أو زيادة تكاليف الإنتاج مرة أخرى.

ثانيا: عجز الموازنة الناتج عن الزيادة الكبيرة فى مصاريف الحكومة فى بنود الرواتب والدعم وخدمة الدين بينما لم تزد الإيرادات بنفس المعدل مما أدى إلى وصول عجز الموازنة إلى ١٤٪ من الناتج المحلى فى العام المالى الماضى. حيث لجأت الحكومات المتعاقبة للإقتراض المحلى لتمويل هذا العجز مما أدى إلى توجيه جزء كبير من موارد القطاع المصرفى لتمويل الحكومة على حساب تمويل الأنشطة الصناعية والتجارية مما رفع تكلفة التمويل على الشركات. كما توسعت البنوك فى جذب أموال المودعين لتمويل الحكومة مما رفع عوائد الودائع وبالتالى الطلب على المنتجات وأسعارها فى السوق، بينما توسع البنك المركزى فى طباعة النقود لسد عجز الموازنة المتفاقم.

ثالثا: تخفيض الجنيه الناتج عن تراجع الاستثمار الأجنبى والسياحة مما ضغط على سعر صرف الجنيه أمام الدولار، ومع وجود فجوة كبيرة بين سعر الصرف الرسمى والمتداول فى السوق الموازية كان لا مفر من تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار بحوالى ١٧٪، وهو ما انعكس على زيادة أسعار السلع المستوردة. كما نتج عن ذلك ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة التى تدخل فى صناعة الكثير من المنتجات المحلية مما أدى إلى زيادة أسعار هذه المنتجات. بجانب التقلب الكبير فى سعر الصرف والقيود التى وضعها البنك المركزى، تذبذب المعروض من السلع المستوردة مؤديا إلى زيادة أسعارها فى السوق.

وقد أدت العوامل السابقة إلى تضخم ملحوظ فى الأسواق حتى وإن لم ترصده البيانات الرسمية. لكن يبدو أن الحكومة أدركت حدة أزمة التضخم فتبنت مجموعة من السياسيات، يأتى على رأسها قيام البنك المركزى برفع قيمة الجنيه أمام الدولار وتقييد سوق العملة الموازية لخفض أسعار السلع المستوردة. كما تعمل الحكومة على فرض تسعيرة جبرية فى الأسواق على السلع الأساسية. هذا بالاضافة إلى محاولة الحكومة توفير كميات كبيرة من السلع الأساسية فى المجمعات الاستهلاكية.

لكن هناك علامات استفهام كبيرة على مدى جدوى هذه المحاولات. فعلى الرغم من استخدام البنك المركزى لمليارات الدولارات من الدعم الخليجى للدفاع عن الجنيه فإن السوق الموازية لم تختفِ، وهو ما يثير القلق حول سعر صرف الجنيه بعد أن تتوقف المساعدات الخليجية. كما أن فرض تسعيرة جبرية قد يجبر التجار على الإلتزام بالسعر الرسمى ظاهريا لكن قد يؤدى إلى الامتناع عن البيع وظهور سوق موازية لهذه المنتجات مما سيؤدى إلى ارتفاع حقيقى فى الأسعار وإن كانت البيانات الرسمية ستعجز عن رصده. وبالرغم من وجاهة مبادرة الحكومة فى توفير كميات كبيرة من السلع الأساسية فى المجمعات الاستهلاكية لزيادة المعروض الحقيقى فى السوق، لكن يبقى السؤال حول قدرة الحكومة على توفير الموارد المطلوبة لذلك فى ظل تصاعد عجز الموازنة، مما يشير إلى أن الفترة المقبلة قد تشهد معدلات تضخم أعلى.

الخلاصة أن الاضطرابات السياسية وعجز الموازنة وتخفيض الجنيه قد نتج عنهم ارتفاع فى تكاليف الإنتاج، وبالتالى مستوى الأسعار النهائى مما أدى إلى التضخم الذى تشهده الأسواق والذى لا ترصده البيانات الرسمية. وعلى الرغم من تبنى الحكومة العديد من السياسيات للسيطرة على التضخم مثل رفع قيمة الجنيه وفرض تسعيرة جبرية على السلع الأساسية وتوفير كمية كبيرة من هذه السلع فى المجمعات الاستهلاكية فإن هناك علامات استفهام كبيرة حول مدى جدوى هذه المبادرات مما قد يؤدى إلى معدلات تضخم أعلى فى الفترة المقبلة. ويظل الاستقرار السياسى هو المطلب الأساسى لاحتواء الأزمة الاقتصادية.
عمر الشنيطي
12 أكتوبر 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"