بعد موجة الضغط الرهيبة
على الجنيه فى الأسابيع الماضية، انصب انشغال الناس على سعر صرف الدولار فى السوق
الموازية وكان على البنك المركزى اللجوء لحل طارئ لوقف النزيف. الكثير من المؤشرات
أنبأت عن وجود مفاوضات مع صندوق النقد خاصة برنامج الحكومة الاقتصادى الذى لا يمكن
انكار كونه مفصلا على اشتراطات الصندوق إلا أن الحكومة والبنك المركزى أكدوا على
عدم وجود مباحثات على الإطلاق. بين عشية وضحاها، تفاجأ الناس بوجود بعثة الصندوق
على أرض الوطن وسط ترحاب رسمى يصور أن الاتفاق مع صندوق النقد لن يوفر فقط قرضا
كبيرا لكنه سيعطى أيضا شهادة ثقة تساعد على استقرار الاقتصاد وتبث الثقة فى
الأسواق مما يساعد على تدفق الاستثمارات الأجنبية ويفتح باب الاقتراض الخارجى أمام
الحكومة المصرية. لم تتعد زيارة بعثة الصندوق الأسبوعين ليخرج بعدها المسئولون
المصريون ومن بعدهم مسئولو الصندوق ليعلنوا عن الوصول لاتفاق مبدئى تتلقى من خلاله
مصر ١٢ مليار دولار من الصندوق خلال السنوات الثلاث القادمة لدعم برنامج الحكومة
الاقتصادى على أن يتم تغطية ٩ مليارات دولار من مصادر أخرى.
برنامج الحكومة يصعب الحصول عليه بشكل متكامل لكن النظر لموازنة الدولة والتصريحات الحكومية يشير إلى أن البرنامج يستهدف السيطرة على عجز الموازنة وبناء الثقة فى الاقتصاد والجنيه على وجه الخصوص من خلال أربعة محاور. الأول؛ رفع أسعار الطاقة والخدمات العامة وتطبيق قانون الخدمة المدنية لخفض بند الأجور كنسبة من الانفاق الحكومى. الثاني؛ تطبيق ضريبة القيمة المضافة لزيادة الحصيلة الضريبية. أما الثالث؛ إيجاد نظام مرن لسعر الصرف يعكس السعر الحقيقى للجنيه، مما سيتطلب تخفيضا كبيرا للجنيه مرة أخرى، مما يعزز من تنافسية الصادرات ويحدث توازن فى ميزان المدفوعات. وأخيرا المحور الرابع يرتبط بزيادة إيرادات الدولة عن طريق بيع بعض الأصول العقارية غير المستغلة وخصخصة بعض الشركات العامة الرابحة عن طريق طرحها فى سوق المال.
إن المحاور الأربعة السابقة تهدف لزيادة إيرادات الدولة وكذلك خفض النفقات الحكومية بشكل سريع، مما يساعد على خفض عجز الموازنة لمستويات مستدامة ويحسن المناخ العام ويحدث استقرارا فى سعر الصرف، مما يزيد من العملة الصعبة المتدفقة على الاقتصاد. لكن تلك الإجراءات ستؤدى لموجة تضخمية أكبر من الموجات السابقة. ومن الجدير بالذكر أن مستويات الأسعار شهدت ارتفاعات كبيرة فى الفترة الأخيرة حتى إن الأشهر الأخيرة سجلت معدلات تضخم تقارب ١٥٪ وهو ما يعنى أن واقع الزيادة الذى يشعر به الناس عند شراء سلة السلع والخدمات أكبر من ذلك نتيجة الاختلاف فى طريقة حساب التغير فى الأسعار.
الجدير بالذكر أن تلك الارتفاعات الكبيرة تم تسجيلها قبل تطبيق برنامج الحكومة الاقتصادى المطلوب لإتمام الاتفاق مع صندوق النقد. أما وقد تم الاتفاق مع الصندوق، فلا مناص من المضى قدما فى تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى سينطوى على إجراءات حرجة من رفع للدعم ورفع لأسعار الخدمات العامة وفرض للضرائب وكذلك تخفيض للجنيه مما سيؤدى إلى موجة تضخمية كبيرة ستشمل أغلب السلع والخدمات فى السوق، كما أن تلك الموجة ستؤدى لزيادة مضطردة فى الأسعار أكبر من أى موجة شهدها الاقتصاد فى العقود الثلاثة الأخيرة بسبب الأثر التراكمى لتطبيق تلك الإجراءات مجتمعة. لن تكون الموجة القادمة لارتفاع الأسعار بلا تكلفة اجتماعية وسياسية. فمع كل موجة من ارتفاع الأسعار يفقد الأفراد والعائلات جزءا من قوتهم الشرائية ومع الموجة العارمة المنتظرة فإن تلك الخسارة ستكون كبيرة جدا على أصحاب الدخول المحدودة والطبقة المتوسطة.
إن أصحاب الدخول المرتفعة بطبيعة الحال لديهم من الفوائض المالية ما يكفى لامتصاص تلك الارتفاعات. كما أن جزءا ليس بالقليل من ثرواتهم فى صورة دولار وعقار وهو ما يحفظ قيمتها. على النقيض محدودى الدخل سيزداد وضعهم سوءا وسيزداد حجم تلك الفئة حيث تشير الاحصائيات الرسمية عن أن ١٫٥ مليون أسرة نزلت تحت خط الفقر فى ٢٠١٥ فقط. كما أنه مع كبر حجم تلك الطبقة وارتفاع الأسعار بشكل جنونى يفوق عدة مرات مستوى الزيادة فى الأجور، فإن تلك الطبقة تتجه بمرور الوقت من درجة الفقر إلى درجة الفقر المدقع. تلك الفئة ليس لديها مساحة لزيادة دخلها بشكل قانونى ليتناسب مع معدلات الأسعار وليس لديها مدخرات لتعتمد عليها ولذلك سيلجأ بعضها للجمعيات الخيرية لسد الحاجة والبعض الآخر سيلجأ للأعمال غير القانونية، أما فئة الشباب فسيلجأ للهجرة خارج البلد وفى الأغلب بطرق غير شرعية. ويحتوى برنامج الاصلاح الاقتصادى الذى تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد على تدعيم شبكة الضمان الاجتماعى من خلال زيادة دعم الغذاء وزيادة برامج التوزيع النقدى المباشر. النظر للجانب الاجتماعى فى البرنامج وتأكيد الصندوق عليه علامة إيجابية جدا وإشارة لاهتمام الصندوق بذلك الجانب فى الآونة الأخيرة على غير سابق عهده لكن ذلك لن يزيل أثر الاصلاحات السلبى.
أما الطبقة المتوسطة والتى كانت دائما صمام الأمان الاقتصادى والاجتماعى فى البلد، حيث تفضل الاستقرار على التغيير حتى ولو واجهت الصعاب، فإن تلك الطبقة ستواجه تآكلا فى قوتها الشرائية بسرعة كبيرة مما يؤدى إلى افقارها ونزول جزء ليس بالقليل منها بشكل سنوى دون خط الفقر لتنضم لفئة محدودى الدخل كما شهد العام الماضى. تلك الفئة تعتمد على دخل ثابت يصعب زيادته ومع تقلص قوتهم الشرائية ستواجه تلك الفئة مشاكل كبيرة بينما لن يكون متاحا لها اللجوء للجمعيات الخيرية المثقلة بخدمة محدودى الدخل. هذا التغير قد يدفع شباب تلك الفئة للاعتراض وربما الثورة على سوء الأوضاع. ولعل من الحكمة أن يبدأ أبناء تلك الفئة العمل على تقليص نفقاتهم بشكل كبير فى المرحلة القادمة والتركيز على الضروريات للتعايش مع تلك المرحلة الحرجة التى قد تمتد لعدة سنوات قبل أن نبدأ فى جنى ثمرات الإصلاح الاقتصادى إذا توافرت الظروف السياسية والأمنية المواتية على المستوى المحلى وكذلك إذا تحسن وضع الاقتصاد العالمى لينعكس إيجابا على الدول الناشئة بما فيها مصر.
عمر الشنيطى
19 - أغسطس - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"