Saturday, September 28, 2013

فى قراءة المشهد الاقتصادى

المتابع للمشهد الاقتصادى مؤخرا يلاحظ عددا من القرارات والأحداث مثل إقرار الحد الأدنى للأجور والتوسع فى طباعة النقود وارتفاع الأسعار، بينما خفّض البنك المركزى سعر الفائدة وانخفض سعر صرف الدولار. قد تبدو هذه الأمور متضاربة لعموم الناس خاصة فى ظل انتشار الشائعات. ولذلك هدف هذا المقال هو قراءة المشهد الاقتصادى وتحليل سياسة الحكومة فى التعامل معه.

دائما ما تكون للقرارات الاستراتيجية ثلاثة أبعاد. أولا: البعد الاقتصادى من حيث تكلفة القرارات ومردودها على مؤشرات الاقتصاد الكلي. ثانيا: البعد الاجتماعى من حيث أثر القرارات على فئات المجتمع المختلفة. ثالثا: البعد السياسى من حيث مواقف التيارات والأحزاب السياسية ومدى تقبل الرأى العام للقرارات. وعادة ما تكون القرارات السياسية والاجتماعية الشعبية ذات أثر اقتصادى سيئ. وتدير الحكومة الاقتصاد من خلال السياسة المالية المعنية بمستوى الإنفاق الحكومى على الرواتب والاستثمار وغيرها وكذلك السياسة النقدية المعنية بمستوى المعروض من النقد وما يرتبط به من سعر الفائدة وغيرها.

بالاعتماد على السياسة المالية والنقدية تستطيع الحكومة نهج توجه توسعى أو تقشفى. ففى حالة التوسع، تقوم الحكومة ماليا برفع الإنفاق الحكومى وزيادة الرواتب والاستثمار الداخلى فى الأساس، كما يعمل البنك المركزى نقديا على زيادة المعروض من النقد عن طريق خفض سعر الفائدة فى الأساس. ويؤدى ذلك إلى نمو الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة مما يؤدى إلى زيادة دخل الأفراد، لكن يأتى ذلك فى الأغلب على حساب زيادة عجز الموازنة والتضخم. ودائما ما يكون التوجه التوسعى مرحبا به اجتماعيا وسياسيا لإيجاده فرص عمل جديدة إذا تمت السيطرة على التضخم فى المقابل.

بينما فى حالة التقشف، تقوم الحكومة ماليا بخفض الإنفاق على الرواتب والاستثمار الداخلى، كما يعمل البنك المركزى نقديا على خفض المعروض من النقد برفع سعر الفائدة، مما يؤدى إلى خفض عجز الموازنة وكبح جماح التضخم، لكن يأتى عادة على حساب تباطؤ النمو وارتفاع البطالة. لذلك دائما ما يكون التوجه التقشفى غير مرحب به اجتماعيا وسياسيا. ويتضح من ذلك أنه لا يوجد توجه مثالى، فكل توجه له مميزاته ومخاطره، مما يجعل اختيار التوجه الاقتصادى أمرا مركبا وذا آثار ممتدة.
وتواجه الحكومة وضعا سياسيا غير مستقر منذ ٣٠ يونيو، إلى جانب وضع اجتماعى حرج وشعور عام بعدم تحقق مطالب الثورة بعد مرور ثلاثة أعوام عليها. ويصاحب ذلك تأزم فى الوضع الاقتصادى الذى يعانى من ركود تضخمى تراجع فيه معدل النمو وزادت البطالة وارتفع عجز الموازنة والدين العام للدولة، كما ارتفعت الأسعار خاصة على السلع الأساسية. وفى ظل هذا الوضع الحرج، على الحكومة أن تحدد أولوياتها بناء على قراءة الأبعاد المختلفة.

ويبدو أن الحكومة أدركت خطورة الوضع السياسى والاجتماعى ولذلك قررت التوسع ماليا ونقديا. فعلى الصعيد المالى، تتوسع فى الإنفاق من خلال رفع الرواتب الحكومية والمحافظة على معدلات الاستثمار الحكومى، على الرغم من عجز الموازنة المتفاقم. أما على الصعيد النقدى، فيعمل البنك المركزى على زيادة المعروض من النقد عن طريق تخفيض هيكل أسعار الفائدة مثل الفائدة على الودائع والقروض البنكية، وكذلك التوسع فى طباعة النقود. هذا التوسع سيؤدى إلى زيادة الاستثمار الداخلى وزيادة الدخل وخلق فرص عمل جديدة، لكن سيأتى على حساب تفاقم عجز الموازنة والدين الداخلى اللازم لتمويله وكذلك ارتفاع معدلات التضخم.

ولعل الدافع وراء ذلك هو الرغبة فى تحفيز الاقتصاد عن طريق خلق فرص عمل جديدة للسيطرة على البطالة التى أصبحت تشكل كارثة اجتماعية وكذلك رفع مستوى دخل الأفراد خصوصا الطبقات الفقيرة الأكثر تضررا من غياب العدالة الاجتماعية. وتأمل الحكومة أن يكون ذلك بمثابة دفعة أولى للنمو حتى تستقر الأوضاع السياسية والأمنية فتعود السياحة والاستثمار الأجنبى إلى سابق عهدهما ويأخذا زمام المبادرة فى دفع عجلة النمو، مما سيؤدى بدوره إلى زيادة الناتج المحلى بشكل سريع ليعود عجز الموازنة والدين الحكومى إلى معدلات آمنة. كما تعول الحكومة على قدرتها على السيطرة على التضخم من خلال مراقبة الأسعار فى الأسواق وخفض سعر صرف الدولار وبالتالى خفض أسعار المنتجات المستوردة.

لكن هذا التصور الذى يبدو مثاليا له مخاطر كبيرة يأتى على رأسها أمران. أولا: قد لا تستقر الأوضاع السياسية والأمنية مما يقلص من دور السياحة والاستثمار الأجنبى واستمرار الاعتماد على الحكومة لتحفيز النمو دافعا عجز الموازنة والدين الداخلى للخروج عن السيطرة. ومع زيادة الدين الخارجى بسبب المساعدات الخليجية، فإن الاقتصاد قد يدخل فى انكماش اقتصادى وفخ ديون، قد يتطلب عقود للخروج منه. ثانيا: قد لا تستطيع الحكومة التحكم فى الأسعار، خصوصا مع عدم الاستقرار، فيخرج التضخم عن السيطرة ويشهد الاقتصاد حالة من التضخم المفرط. وقد لا يحالف الحكومة الحظ فيتزامن الخطران ويدخل الاقتصاد فى انكماش تضخمى يكون بمثابة كارثة اقتصادية وليس فقط أزمة عابرة.

الخلاصة أن الاقتصاد يعانى من ركود تضخمى تأمل الحكومة علاجه بتبنى توجه توسعى ذى شعبية إجتماعية وسياسية يهدف لدفع عجلة النمو وخلق فرص عمل، لكن على حساب زيادة عجز الموازنة والدين الحكومى والتضخم على المدى القصير حتى يستقر الوضع السياسى والأمنى فتعود السياحة والاستثمار الأجنبى لدفع عجلة النمو. وعلى الرغم من كونها سياسة اقتصادية ذات وجاهة فإنها تحمل معها مخاطر كبيرة، كاحتمالية انكماش الاقتصاد ودخوله فى فخ ديون فى حالة عدم الاستقرار، أو احتمالية التضخم المفرط فى حالة خروج التضخم عن السيطرة، أو تزامن الأمرين والدخول فى انكماش تضخمى لا تحمد عقباه. ويظل الاستقرار السياسى والأمنى الشرط الأساسى للخروج من الأزمة الاقتصادية.

عمر الشنيطي
28 سبتمبر 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, September 14, 2013

تكلفة المرحلة الانتقالية

منذ فبراير٢٠١١ دخلت مصر مرحلة انتقالية تهدف لبناء نظام مدنى ديمقراطى، لكن هذا المرحلة امتدت لعامين ونصف من حكم المجلس العسكرى ثم الإخوان واتسمت بحالة من عدم الاستقرار السياسى رفعت التكلفة الاقتصادية للمرحلة. لكن لحسن الحظ استطاعت الحكومة تمويل عجز الموازنة والدفاع عن الجنيه مستعينة بالسيولة المرتفعة فى القطاع المصرفى واحتياطى النقد الأجنبى المرتفع فى بداية ٢٠١١، بالإضافة إلى المساعدات الخارجية التى تلقتها مصر خلال هذه المرحلة.

وبعد ٣٠ يونيو، دخلت مصر مرحلة انتقالية جديدة تتسم بالاضطرابات السياسية والتى تطورت لأعمال عنف مما أثر على الاقتصاد الذى لم يكن قد تعافى بعد من المرحلة الانتقالية الأولى. وتزامنت المرحلة الانتقالية الجديدة مع تراجع الأنشطة الصناعية والتجارية المختلفة وتأثر القطاع السياحى بشكل غير مسبوق. ومع انخفاض مستوى السيولة فى القطاع المصرفى واحتياطى النقد الأجنبى مقارنة ببداية ٢٠١١، فإن تحمل تكلفة المرحلة الانتقالية الجديدة داخليا قد يكون شاقا بدون مساعدات خارجية كبيرة، وهو ما يطرح عدة تساؤلات هامة فى هذا السياق:

أولا: هل تستطيع المساعدات الخارجية إنقاذ الاقتصاد المصرى؟
بالنظر للمرحلة السابقة، نجد أن مصر تلقت مساعدات خارجية من قطر وليبيا وتركيا بحوالى ١٢ مليار دولار. وقد تم استخدام هذه المساعدات بالإضافة إلى الاحتياطى لإحداث توازن فى ميزان المدفوعات والذى تأثر بزيادة الواردات أمام الصادرات وتراجع السياحة والاستثمار الأجنبى. وقد ساعد ذلك فى الدفاع عن الجنيه والذى انخفضت قيمته فقط بنسبة ١٧٪ خلال المرحلة السابقة وهو تدهور أقل بكثير من توقعات الكثير من الخبراء.
 أيضا هذه المساعدات الخارجية والسيولة المرتفعة فى القطاع المصرفى ساعدت فى تمويل عجز الموازنة المتصاعد. لذلك فإن المساعدات الخارجية لعبت دورا كبيرا فى تحمل تكلفة المرحلة السابقة وأنقذت الاقتصاد من تدهور كبير. وبناء على وضع السيولة والاحتياطى الحالى، فإن المساعدات الخارجية أصبحت حتمية حتى يستطيع الاقتصاد تحمل تكلفة المرحلة الانتقالية الجديدة، حيث ستساعد فى الدفاع عن الجنيه فى السوق وتخفيف ضغط تمويل عجز الموازنة عن كاهل البنوك المحلة.

ثانيا: ما هو حجم المساعدات الخارجية المطلوبة حتى لا ينهار الاقتصاد؟
لا يمكن الجزم بمدة المرحلة الانتقالية الجديدة لكن بالتأكيد لن تنتهى فى ستة أشهر ولذلك فافتراض مدة سنة أو سنة ونصف سيكون أقرب للواقع. ولتوقع حجم المساعدات المطلوبة فى هذه الفترة لابد من النظر لعجز الموازنة المتوقع وسداد الديون المستحقة من ناحية، ومستوى تآكل الاحتياطى النقد الأجنبى من ناحية أخرى، حيث إن المساعدات الخارجية تصب فى هذين الاتجاهين.
 بالنظر لعجز الموازنة، نجد أن العجز المتوقع فى موازنة العام المالى ٢٠١٣/٢٠١٤ كان حوالى ١٩٥ مليار جنيه، بالإضافة إلى الحاجة لسداد حوالى ١١٥ مليار جنيه ديون مستحقة، مما يجعل الحكومة بحاجة لاقتراض حوالى ٣١٠ مليارات جنيه خلال العام المالى الحالى. لكن التقديرات تشير إلى أن عجز الموازنة الحقيقى قد يصل إلى حوالى ٢٥٠ مليار جنيه، مما يعنى حاجة الحكومة لاقتراض حوالى ٣٥٠ مليار جنيه فى العام المالى الحالى. ولو اعتبرنا أن المرحلة الانتقالية ستطول لسنة ونصف حتى نهاية ٢٠١٤، فإن الحكومة ستحتاج لاقتراض حوالى ٥٠٠ مليار جنيه داخليا وخارجيا لسد العجز وسداد الديون المستحقة.
وبالنظر إلى الاحتياطى، نجد أن معدل التآكل الناتج عن استخدام البنك المركزى للاحتياطى للدفاع عن الجنيه، فى وقت تتراجع فيه عوائد السياحة والاستثمار الأجنبى من الدولار، يصل إلى حوالى مليار دولار شهريا. لكن مع استمرار التدهور الاقتصادى قد يزيد معدل التآكل ليصل إلى ١٫٥ مليار دولار شهريا. ولذلك فإن الاقتصاد سيحتاج فى المرحلة الإنتقالية (يوليو ٢٠١٣ ــ ديسمبر ٢٠١٤) حوالى ٢٥ مليار دولار لدعم الاحتياطى. وهذا الرقم هو توقع مبدئى وقد يزيد لو زاد تعقد الوضع السياسى، وبطبيعة الحال لابد من تمويل هذا الرقم خارجيا لتوفير العملة الصعبة.
  بناء على ذلك، يحتاج الاقتصاد حوالى ٢٥ مليار دولار من المساعدات الخارجية فى المرحلة الانتقالية الجديدة. وهذا من شأنه دعم الاحتياطى للدفاع عن الجنيه وكذلك تقليل العبء عن كاهل البنوك المحلية والتى عليها توفير باقى احتياجات الحكومة التمويلية.

ثالثا: هل يمكن توفر هذا الحجم الكبير من المساعدات فى الفترة القادمة؟
 ما إن دخلت مصر المرحلة الانتقالية الجديدة إلا وسارعت بعض الدول الخليجية لتقديم المساعدات لمصر والتى بلغت ١٤ مليار دولار تعهدت بها السعودية والكويت والإمارات. وتغطى هذه المساعدات بالفعل حوالى نصف ما يحتاجه الاقتصاد خارجيا فى المرحلة الانتقالية الجديدة. وبالنظر للمرحلة السابقة، نجد أن المساعدات التى قدمتها الدول الحليفة فى بداية المرحلة لحقها مساعدات أخرى فيما بعد. ولذلك فمن المتوقع أن حزمة المساعدات الأولى سيعقبها مساعدات أخرى لاحقا.

ونظرا لاعتماد الاقتصاد فى هذه المرحلة على المساعدات الخارجية يستشرف الناس أخبارها باهتمام بالغ. وقد تلقت مصر بالفعل جزءا من المساعدات السعودية والإماراتية بلغت حوالى ٥ مليار دولار. وطبقا لمواقف هذه الدول حتى الآن، فإنه من المتوقع الوفاء بالمساعدات المتفق عليها، بل أيضا أن تزيد هذه المساعدات فى الفترة القادمة.

الخلاصة أن المرحلة الانتقالية لها تكلفة اقتصادية وفى ظل انخفاض السيولة والاحتياطى مقارنة ببداية ٢٠١١، أصبح لا مفر من الإعتماد الكبير على المساعدات الخارجية. ومن المتوقع أن يحتاج الاقتصاد حوالى ٢٥ مليار دولار من المساعدات الخارجية لدعم الاحتياطى وتمويل احتياجات الحكومة. وقد تم بالفعل التعهد بتقديم مساعدات بلغت ١٤ مليار دولار، متوقع زيادتها لاحقا لتغطية الفجوة المطلوبة. لكن للتذكرة، هذه المساعدات رغم كونها مسكنات هامة لتحمل تكلفة المرحلة الانتقالية إلا أنها لا تبنى اقتصادا ولا تحقق تنمية.

عمر الشنيطي
14 سبتمبر 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"