Saturday, March 29, 2014

التوجه الاقتصادي .. كل حاجة وعكسها

قبل الدخول في تفاصيل الوضع الاقتصادي، يجب النظر للتوجه العام للاقتصاد حتى نستطيع تحليل هذا الوضع الاقتصادي والتنبوء بما هو آت. إن الرغبة في تحديد التوجه الاقتصادي لا تقتصر على الاقتصاديين بل تمتد للقطاع الخاص والمستثمرين وحتى عوام الناس. فقد يكون التوجه الاقتصادي يميني حيث يقوم القطاع الخاص بتحمل المسئولية الأكبر في تحريك الاقتصاد وخلق فرص العمل بينما يكون دور الحكومة هو التوجيه والرقابة. وقد يكون التوجه الاقتصادي يساري فتلعب الحكومة دورا أكبر في دفع عجلة الاقتصاد على حساب تراجع دور القطاع الخاص. لكن محاولة تحديد التوجه العام للاقتصاد في مصر تبدو أمرا بعيد المنال، حيث أن الشواهد المتاحة تعطي تصورا متضاربا.

فلو وضعت نفسك مكان القطاع الخاص ومجتمع الأعمال في مصر، ستجد أنه دائما يطلب منك أن تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد وتحمل مخاطرة الاستثمار في مصر في هذه الفترة العصيبة مع الوعود الكبيرة أن الحكومة ستدعم عملك بتنفيذ خطة التحفيز الاقتصادي والتي ستحرك المياه الراكدة في البلد. لكن في نفس الوقت تجد أسعار الطاقة قد تضاعفت على مصنعك عدة مرات في السنوات الثلاثة الأخيرة وتجد أن الحديث لا يتوقف عن رفع مختلف أنواع الدعم عنك - مع العلم أن في رفعه تأثيرا إيجابيا على العدالة الاجتماعية -  إلا أنه يؤثر بشدة على ربحية الاستثمار. كما أنك تفاجأ بكثرة الحديث عن العهد الناصري وعن إستعادة أمجاده والتي كان منها القضاء على أمثالك بالضربة القاضية في هذا العهد السابق.

في خضم ذلك، تجد المؤسسة العسكرية تستحوذ على أغلب المشروعات الحكومية الكبيرة والتي كانت بمثابة طوق النجاة لشركتك وباقي القطاع الخاص وتتبدد أحلامك حينما تجد هذه المشروعات الكبيرة تتم بالشراكة مع شركات خليجية بدلا من شركات محلية. من الطبيعي أن هذه الشواهد المتضاربة تجعلك تشعر بالقلق حتى وإن كنت غير قادر على تحديد سبب قلقك. وبالتالي تجد أن هذا التضارب يثنيك عن الاستثمار في مصر في هذه المرحلة ويدفعك لتجميد أموالك والجلوس لمشاهدة ما سيحدث.
أما لو وضعت نفسك مكان عوام الناس وخاصة الفئات الأكثر فقرا في المجتمع، ستجد أنه يطلب منك عدم التظاهر لرفع أجرك وتحسين وضعك السيء بالأساس.

والذي تدهور بشدة في السنوات الثلاثة الأخيرة. كما ستجد أنه يطلب منك تحمل الفترة القادمة الحرجة لكن من الناحية الأخرى يتم وعدك بإعادة أمجاد عصر عبد الناصر من حيث العدالة الإجتماعية. وبين هذا وذاك، تسمع عن مشروعات بالمليارات تحصل عليها  المؤسسة العسكرية ويتحدث حولك الكثيريون عن علامات إستفهام كبيرة حول هذه الصفقات. بينما يزيد إحباطك عند السماع عن ثروات رجال الأعمال الطائلة والتي ما زادتها السنوات الثلاثة الأخيرة إلا تراكما وبالتالي تجد أن هذا التضارب يحبطك ويجعلك غير مستعد للتنازل عن حقوقك الضائعة.

أما لو وضعت نفسك مكان الجهات السيادية في الدولة، ستجد أن الحكومة مكبلة وتحت ضغط كبير يثني أي وزير عن إتخاذ قرارات حقيقية خوفا من المسائلة والهجوم الإعلامي. بينما تجد أن المؤسسة الوحيدة القادرة على تخطي المسائلة والنقد هي المؤسسة العسكرية. لذلك إذا كنت ممن يريد خدمة البلد من خلال العمل الحكومي ويعرض عليك ذلك، فإنك لو صحت نيتك في خدمة البلد ستجد أنه لا محالة من الإعتذار لأن البلد أصبحت في وضع حرج والحكومة مكبلة في مواجهة ذلك ولذلك لن تتبقى غير المؤسسة العسكرية لدفع عجلة الاقتصاد حتى وإن أدى ذلك الى قتل القطاع الخاص بالتصوير البطيء.

الخلاصة أنه يوجد حجم كبير من التضارب في الشواهد التي يستقبلها اللاعبين الأساسين في الاقتصاد مما يؤدي إلى ضبابية شديدة في التوجه الاقتصادي سواء كان توجها يمينيا أم يساريا، لكنه في الواقع يبدو توجها مشوها وضبابيا تسيطر فيه المؤسسة العسكرية على مقاليد الاقتصاد بعد أن تجمد دور الحكومة وتراجع القطاع الخاص عن لعب دوره تحسبا لما هو آت. بينما لا تجد الفئات الأكثر فقرا في المجتمع سوى الاستمرار في الإحتجاج على تدهور وضعها والمطالبة بالحد الأدنى من حقوقها. وتظل الأولوية هي تحديد التوجه الاقتصادي للفترة القادمة بدلا من تفشي الشواهد المتضاربة.


عمر الشنيطي
29 مارس - 2014
نُشر هذا المقال على موقع "مصر العربية"

Saturday, March 22, 2014

عن مزاحمة الحكومة والمؤسسة العسكرية للقطاع الخاص

إن الافتراض الرئيسى فى النظم الرأسمالية أن القطاع الخاص هو المسئول عن تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل، بينما يظل دور الحكومة هو توجيه الاقتصاد استراتيجيا والرقابة على ممارسات هذا القطاع لحفظ الحقوق وحماية الفئات الأكثر فقرا من تغول الشركات الكبيرة. وبناء على هذا التصور، لا تنخرط الحكومة والجهات السيادية فى عملية الإنتاج إلا فى أضيق الحدود حتى تفسح المجال للقطاع الخاص. وقد يكون التطبيق مغايرا للنظرية فتلعب الحكومة فى بعض الأحوال دورا كبيرا فى عملية الإنتاج لأسباب مرحلية. لكن قد يطول هذا النهج ليزاحم القطاع الخاص فيضره بشدة ويؤثر على الاقتصاد الكلى وفرص التوظيف بشكل كبير.

إذا نظرنا لحال القطاع الخاص فى مصر فى السنوات الأخيرة، نجد أنه عانى بشدة من تردى الوضع السياسى والأمنى فى أعقاب ثورة ٢٥ يناير مما انعكس بوضوح على تدهور الوضع الاقتصادى. لكن معاناة القطاع الخاص لم تتوقف عند التدهور السياسى والاقتصادى وضبابية الوضع العام، بل إنها امتدت لتشمل صورة مركبة من المزاحمة يواجهها القطاع الخاص من مؤسسات الدولة السيادية والتى كان من المفترض أن تساعد هذا القطاع على التعافى، لكنها فى الواقع أصبحت أكثر الجهات التى تنافسه وتهدده وهو ما يحدث على مستويين رئيسيين من قبل الحكومة والمؤسسة العسكرية.

المستوى الأول يتعلق بمزاحمة الحكومة للقطاع الخاص فيما يخص الحصول على التمويل من البنوك المحلية. فمنذ ثورة ٢٥ يناير، تفاقمت مصروفات الحكومة فى بنود الرواتب والدعم وخدمة الدين بينما لم تزد إيرادات الحكومة بشكل مناسب مما أدى إلى زيادة عجز الموازنة والتى كان على الحكومة تمويله فى الأساس من خلال الاقتراض المحلى. وهذا الاقتراض المحلى يوجه جزءا كبيرا من سيولة البنوك المحلية لتمويل عجز الموازنة المتصاعد وبالتالى يقلل من السيولة المتاحة لتمويل القطاع الخاص. كما أن ارتفاع سعر الفائدة على السندات الحكومية جعل تمويل الحكومة من خلال شراء السندات الحكومية أكثر إغراء للبنوك المحلية.
أدت هذه المزاحمة من قبل الحكومة إلى ارتفاع تكفلة الإقراض وقلة السيولة المتاحة لتمويل القطاع الخاص مما أثر سلبا على قدرة القطاع الخاص على الاقتراض وبالتالى أثر سلبا على خطط الاستثمار والتوسع فى هذا القطاع وبطبيعة الحال قدرته المستقبلية على خلق فرص العمل. وهذا النوع من المزاحمة ليست جديدة على مصر ويرى البعض أنه كان لا مفر منها فى ضوء زيادة عجز الموازنة وضعف مصادر التمويل الخارجية بعد الثورة، لكن مما لا شك فيه أن استمرار هذا التوجه لعدة سنوات يسبب مزاحمة شديدة تسبب ضررا كبيرا لهذا القطاع قد يأخذ عدة سنوات حتى يتم التغلب عليه.

أما المستوى الثانى فيتعلق بمزاحمة المؤسسة العسكرية للقطاع الخاص فيما يخص الحصول على عقود تنفيذ المشروعات الحكومية الكبرى وهو نوع جديد من المزاحمة لم يكن القطاع الخاص يواجهه بهذه الشراسة. فعلى الرغم من لعب المؤسسة العسكرية دورا بارزا فى النشاط الاقتصادى لعقود فإن هذا الدور كان يتم بشكل سلس قد لا يشعر به أغلب الناس ولا يمثل منافسة حقيقية مع القطاع الخاص، لكن دور المؤسسة العسكرية الاقتصادى قد تزايد بشدة بعد ثورة ٢٥ يناير وبرز بشكل أكبر بعد ٣٠ يونيو ليصبح المحور الأهم والأكثر تأثيرا فى الاقتصاد والذى يشمل قطاعات متنوعة مثل البناء والطرق والنقل وغيرها.

فالقطاع الخاص ظل يعانى من وضع صعب لمدة عامين ونصف وكان يأمل أن التوجه التوسعى بعد ٣٠ يونيو سيكون طوق النجاة بعد أن استنفد أغلب موارده فى صراع البقاء بعد الثورة، لكن الواقع أتى مغايرا فذهب الكثير إن لم يكن أغلب العقود الحكومية الكبيرة إلى المؤسسة العسكرية بالإسناد المباشر. كما أن المشروعات القومية الكبرى مثل بناء مليون وحدة سكنية لمحدودى الدخل تصدرتها المؤسسة العسكرية بدون إشراك القطاع الخاص. كما تبددت أحلام هذا القطاع فى الحصول على عقود مقاولات الباطن وتوريد مواد البناء إلا فى أضيق الحدود بعد الشراكة مع شركة خليجية تنوى استيراد أغلب مواد البناء اللازمة للمشروع من الخارج.

يرى البعض أن هذه المزاحمة لا مفر منها بسبب الحاجة لمؤسسة اقتصادية منضبطة تستطيع تنفيذ المشروعات العملاقة فى وقت قصير وبشكل فعال وكذلك بسبب ظاهرة الأيادى المرتعشة فى حكومات ما بعد الثورة والتى تفضل عدم الخوض فى متاهات المناقصات وما يستتبعها من مساءلة قانونية. بالإضافة لذلك، يتضح جليا رغبة الخليج فى الشراكة المباشرة مع المؤسسة العسكرية لضمان الحفاظ على استثماراتهم وسرعة تنفيذها. قد تكون هذه الأسباب منطقية لظاهرة المزاحمة على المدى القصير، لكنها لا تبرر التوغل فيها والذى سيقتل القطاع الخاص بالتصوير البطىء ويؤثر سلبا على قدرته على خلق فرص العمل وهو ما ينعكس فى النهاية على الفئات الأكثر فقرا فى المجتمع.

الخلاصة أن القطاع الخاص يتحمل مسئولية تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل فى النظم الرأسمالية بينما يقتصر دور الحكومة على التوجيه والرقابة. لكن يواجه القطاع الخاص فى مصر مؤخرا مزاحمة شديدة من قبل الحكومة فيما يخص الاقتراض المحلى والذى يحد من السيولة المتاحة لتمويل القطاع الخاص ويرفع تكلفة التمويل. كما يواجه القطاع الخاص أيضا مزاحمة متصاعدة من المؤسسة العسكرية فى الحصول على عقود تنفيذ المشروعات الحكومية الكبرى. وتؤدى هذه المزاحمة بنوعيها إلى الضغط بشدة على القطاع الخاص المنهك بالأساس مما يؤثر على استثماراته ونموه وبالتالى قدرته على خلق فرص العمل وهو ما ينعكس بشدة على الفئات الأكثر فقرا فيعم الضرر على أغلب طبقات المجتمع على السواء.


عمر الشنيطى
22 - مارس - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, March 8, 2014

عن سياسات البنك المركزي

يدار الاقتصاد من خلال السياسة المالية والتي تديرها وزارة المالية والسياسة النقدية والتي يديرها البنك المركزي، والذي يقوم بذلك من خلال مجموعة من الأدوات يأتي على رأسها التحكم في سعر فائدة الإقراض بين البنك المركزي والبنوك التجارية والذي بدوره يحدد أسعار الفائدة في السوق مثل الفائدة على الودائع والقروض البنكية. وعلى الرغم من وجود أدوات أخرى لدى البنك المركزي، إلا أن التحكم في سعر الفائدة بات هو الأكثر استخداما حيث يعمد البنك المركزي إلى خفض سعر الفائدة حينما يريد تنشيط الاقتصاد، بينما يرفع سعر الفائدة حينما يريد خفض التضخم.

لكن هذه الأداة التقليدية باتت أقل تأثيرا في خضم الأزمة المالية العالمية بعد أن انخفضت أسعار الفائدة عالميا لمستويات متدنية وبالتالي فقدت هذه الأداة قدرتها على تنشط الاقتصاد وكان على البنوك المركزية إيجاد أدوات جديدة والتي جاء على رأسها سياسة التيسير الكمي(Quantitative Easing) ، حيث يقوم البنك المركزي بخلق كمية كبيرة من النقود واستخدامها للإكتتاب فى السندات الحكومية لدفع الإنفاق والاستثمار. وكانت اليابان قد اتبعت هذه السياسة مطلع العقد الماضي في محاولة للخروج من أزمتها الاقتصادية لكنها لم تنجح لأسباب عديدة.

ومع تصاعد حدة الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨، اتجهت البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا للإعتماد على سياسة التيسير الكمي لإنعاش الاقتصاد والذي يراه بعض الاقتصاديين بمثابة طوق النجاة للاقتصاد العالمي للخروج من غياهب الركود، بينما  يرى البعض الآخر أن هذه السياسية بمثابة المسكن محدود الأثر وتساهم في تضخيم حجم الأزمة على المدى البعيد. لكن على كل حال، هذه السياسة تعتبر من أكثر الأدوات إتباعا في السنوات الأخيرة وقد حدث عليها تطويرا كبيرا لتتناسب مع حجم الأزمة الاقتصادية العالمية.

تبنى البنك المركزي المصري سياسة التيسير الكمي مع حلول الأزمة المالية العالمية حيث قام بالتوسع في خلق النقود وشراء السندات الحكومية بصافي ١٣١ مليار جنيه في العام المالي ٢٠٠٨/٢٠٠٩ لسد الفجوة الناتجة عن خروج بعض صناديق الاستثمار الأجنبية من السوق المصري، وهو أعلى مستوى للزيادة السنوية في استثمار البنك المركزي في السندات الحكومية حتى بالمقارنة بسنوات ما بعد الثورة. وبعد ثورة ٢٥ يناير، استمر البنك المركزي في تبني سياسة التيسير الكمي بشكل موسع حتى يستطيع توفير إحتياجات الحكومة التمويلية فزاد استثماره في السندات الحكومية بمتوسط ٨٠ مليار جنيه سنويا، كما هو موضح في الرسم البياني الأول.

أدت هذه السياسية لتضاعف إجمالي استثمار البنك المركزي في السندات الحكومية ثلاثة مرات خلال ستة أعوام ليصل إلى ٦٥٤ مليار جنيه في نهاية العام المالي الماضي. ومع تصاعد عجز الموازنة في الفترة القادمة، فمن المتوقع أن يستمر البنك المركزي في تبني هذه السياسة بشكل موسع. وعلى التوازي، فإن البنوك التجارية في مصر قد زادت استثمارها في السندات الحكومية بشكل ملحوظ منذ الثورة. وعلى الرغم من وجود سيولة جيدة لديها حتى الآن إلا أن زيادة الإعتماد على الإقتراض المحلي سيضع البنوك المحلية في موقف حرج بعد فترة ليست بالطويلة وقد يحتاج البنك المركزي إلى التدخل لإنقاذ هذه البنوك.

ومن المتوقع أن يتدخل البنك المركزي عن طريق أدوات غير تقليدية مثل التسهيلات الإئتمانية الخاصة (Special Credit  Facilities)  والتي يقوم من خلالها بشراء سندات تصدرها البنوك المحلية لتمويل إحتياجاتها ودفعها لتمويل القطاع الخاص وتنشيط الاقتصاد. وفي حالة تصاعد الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على الشركات الكبيرة وقدرتها على الإقتراض، فإن البنك المركزي قد يضطر للتدخل أيضا عن طريق أدوات غير تقليدية أخرى مثل التيسير الإئتماني (Credit Easing) بشراء سندات تصدرها هذه الشركات لتمويل إحتياجاتها. وهذه الوسائل غير التقليدية تم إتباعها من قبل البنوك المركزية في أمريكا واروربا في الفترة الأخيرة.

مثل هذه الأدوات تؤدي بطبيعة الحال لزيادة المعروض من النقد وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم لكن بدون إيجاد حلول حقيقية للمشاكل الهيكلية في المؤسسات التي تحصل على التمويل سواء كانت الحكومة حاليا أو البنوك والشركات الكبيرة مستقبلا. أما الطريق الآخر للتعامل مع الأزمة فهو عن طريق إنتهاج سياسة مالية منضبطة بترشيد النفقات والعمل على زيادة الإيرادات الضريبية على المدى القصير وهو طريق صعب سياسيا وإجتماعيا على المدى القصير وإن كانت نتائجه أكثر إستدامة.

جدير بالذكر أن البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا لم تشرع في استخدام الأدوات غير التقليدية إلا بعد وصول أسعار الفائدة لمستويات متدنية وفقدانها القدرة على تنشط الاقتصاد وكان على البنوك المركزية إيجاد أدوات بديلة. لكن الحالة في مصر مختلفة حيث أن البنك المركزي قد شرع في التيسير الكمي قبل خفض سعر الفائدة والذي ما يزال مرتفعا مقارنة بالمستويات العالمية وهو أحد مواطن الجدل الكبير حول سياسات البنك المركزي.

الخلاصة أن السياسة النقدية التقليدية ترتكز حول إدارة سعر الفائدة من قبل البنك المركزي لتنشيط الاقتصاد وكبح جماح التضخم، لكن الأزمة المالية العالمية أوجدت الحاجة لأدوات جديدة بعد أن انخفضت أسعار الفائدة لمستويات متدنية. وظهرت سياسة التيسير الكمي كأداة تتيح للبنوك المركزية خلق النقود لتمويل إحتياجات الحكومة ولحقها أدوات أخري بعد ذلك. إنتهج البنك المركزي المصري هذه السياسة أيضا منذ الأزمة المالية العالمية وتوسع فيها بعد الثورة لتمويل عجز الموازنة المتفاقم. ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه التوسعي ليشمل أدوات غير تقليدية أخرى وإن كانت هناك علامات إستفهام حول عدم خفض سعر الفائدة المرتفع قبل الإعتماد على الأدوات غير التقليدية. وسيظل الطريق المستدام هو إنتهاج سياسة مالية منضبطة وإن كان ذلك مكلف سياسيا وإجتماعيا.


عمر الشنيطي
8 مارس 2014
نُشر هذا المقال على موقع "مصر العربية"

Friday, March 7, 2014

عن هشاشة الاقتصاد

ضمت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية مصر لقائمة الدولة الهشة لأول مرة هذا العام فى تقريرها الصادر مؤخرا. وكما هو معتاد انقسم المعلقون إلى فريقين: الأول يدلل بذلك على أن الاقتصاد يترنح وفى طريقه للانهيار، بينما الثانى يعتبر هذا التقرير جزءا من نظرية المؤامرة الكونية على مصر. لكن بعيدا عن التوظيف السياسى، فإنه من المفيد النظر فى مفهوم الاقتصاد الهش وأسباب اعتبار الاقتصاد المصرى هشا وما يجب عمله للخروج من هذه القائمة الحرجة.

إذا نظرنا لقائمة الدول الهشة، نجد أنها تضم الدول التى يواجه اقتصادها تحديات تنموية كبيرة فى مسيرتها لمحاربة الفقر وغيره من الأهداف التنموية الكبرى. وتتسم هذه الدول بعدم استدامة إيرادتها الحكومية بشكل كبير، حيث تمثل إيرادات الضرائب المحلية نسبة ضئيلة من الناتج المحلى قد لا تتعدى ١٤٪ فى أغلب الأحوال، مما يزيد من اعتماد هذه الدول على موارد خارجية غير مستدامة مثل المساعدات والمنح سواء من دول أخرى أو من منظمات دولية وكذلك تحويلات العاملين بالخارج والاستثمار الأجنبى المباشر. هذه الموارد على الرغم من أهميتها فإنها لا تساهم فى تحقيق تنمية حقيقية وتجعل الاقتصاد أكثر عرضة للأزمات الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد.

تضم قائمة الدول الهشة فى التقرير الأخير لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية ٥١ دولة يعيش بها ١٫٤ مليار نسمة، أى ما يمثل ٢٠٪ من إجمالى السكان فى العالم. ومن المتوقع أن تصل نسبة الفقر فى هذه الدول إلى ٥٠٪ بحلول ٢٠١٨، أى أن نصف سكان هذه الدول سيكون دخلهم أقل من ١٫٢٥ دولار يوميا. ومن الملاحظ أن أغلب الدول التى انضمت مؤخرا للقائمة مرت بصدمات سياسية كبيرة دفعت بها إلى حالة من الفوضى والعنف الداخلى، مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسى وغياب فرص النمو الاقتصادى، والذى بدوره دفع هذه الدول للاعتماد على المنح والمساعدات بشكل كبير لمنع الاقتصاد من الانهيار، لكن أوقع اقتصاد هذه الدول فى فخ الاعتماد على مثل هذه الموارد غير المستدامة.

بناء على التوصيف السابق، فإن ضم مصر لقائمة الدول الهشة اقتصاديا على الرغم من كونه تطورا سلبيا فإنه متوقع إلى حد كبير بسبب تدهور الوضع السياسى منذ ثورة ٢٥ يناير. وقد إنعكس ذلك سلبا على الوضع الاقتصادى وبالتالى الحصيلة الضريبية للدولة، والتى كانت تمثل حوالى ١٤٫٩٪ من إجمالى الناتج المحلى فى الفترة بين ٢٠٠٧ و٢٠١١ لكن هذه النسبة فى انخفاض مؤخرا بسبب الوضع السياسى. وقد أدى ذلك بدوره إلى انخفاض الاعتماد على الضرائب كمصدر للتمويل وزيادة الاعتماد بشدة على تحويلات العاملين بالخارج والمساعدات والمنح، بينما لم تساهم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتى كانت تتراوح بين ٧ و١٠ مليارات دولار فى السنوات التى سبقت ثورة ٢٥ يناير، فى دفع التنمية مؤخرا بسبب إحجام المستثمرين الأجانب عن الاستثمار فى مصر فى ظل الاضطراب السياسى الحالى.

تمثل المنح والمساعدات شريان الحياة للاقتصاد المصرى حيث تلقت مصر ١٢ مليار دولار فى العام المالى الماضى (٢٠١٢/٢٠١٣) من قطر وتركيا وليبيا، ثم تلقت مصر ٢٥ مليار دولار فى العام المالى الحالى (٢٠١٣/٢٠١٤) من السعودية والإمارات والكويت. وقد كان لهذه المساعدات دور كبير فى منع الاقتصاد المصرى من الانهيار، لكنها بطبيعة الحال زادت من اعتماد الاقتصاد على هذه المساعدات الخارجية وجعلته أكثر عرضة للأزمات الاقتصادية. وتشير العديد من الدراسات إلى أن مثل هذه المساعدات لا تساهم فى تحقيق تنمية مستدامة، لكنها فى حقيقة الأمر تذهب للإنفاق الاستهلاكى وسد الحاجات الأساسية للحكومة. كما أن العديد من الدراسات أشارت أيضا إلى أن ٨٠٪ من تحويلات المصريين بالخارج تذهب لإنفاق استهلاكى بحت، بينما ٢٠٪ تذهب لاستثمارت صغيرة لا تسهم بشكل فعال فى التنمية. لذلك فإن ارتفاع حجم المساعدات والمنح وكذلك تحويلات العاملين بالخارج قد منعت الاقتصاد من الانهيار، لكنها جعلته هشا.

على الرغم من قتامة الصورة والتى يؤكدها تقرير منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية فإن هذا الوضع يمكن تقويمه والحلول لذلك معروفة. ويكمن الخروج من هذا الوضع الهش فى خفض الاعتماد على الموارد الخارجية من مساعدات وتحويلات للعاملين بالخارج إلى جانب زيادة حصيلة الضرائب المحلية لتكون هى المصدر الرئيسى لتمويل احتياجات الحكومة. وفى هذا الصدد، تأتى الكثير من الوسائل والمبادرات للاستثمار فى تطوير النظام الضريبى وتعبئته بشكل يخفض من ظاهرة التهرب الضريبى ويزيد من إجمالى الحصيلة الضريبية. كما أن على الحكومة دور كبير فى توجيه المساعدات وكذلك الإنفاق الحكومى العام فى استثمارات وقطاعات دافعة للتنمية وقادرة على زيادة الحصيلة الضريبية مستقبلا.

الخلاصة أن الاضطرابات السياسية انعكست سلبا على الوضع الاقتصادى فانخفضت الحصيلة الضريبية كنسبة من الناتج المحلى، مما جعل الاقتصاد المصرى يصنف كاقتصاد هش من قبل منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، حيث يعتمد بشكل كبير على مصادر تمويل خارجية مثل المساعدات والمنح وتحويلات العاملين بالخارج والتى على الرغم من دورها الحيوى فى منع انهيار الاقتصاد فإنها تذهب فى الإنفاق الاستهلاكى ولا تساهم فى إحداث تنمية حقيقية ترفع من حصيلة الضرائب المحلية بشكل مستدام. وعلى الرغم من أن ضم مصر لقائمة الدولة الهشة لأول مرة هذا العام أمر سلبى فإن الخروج من ذلك الوضع ليس مستحيلا ويكمن فى المقام الأول فى العمل على زيادة حصيلة الضرائب المحلية بشكل مستدام من خلال تطوير النظام الضريبى وكذلك توجيه المساعدات والمنح للقطاعات الدافعة للتنمية.

عمر الشنيطي
7 مارس 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"