مع تطور تكنولوجيا الاتصالات أصبح العالم قرية صغيرة. ولا يقتصر ذلك
على التواصل ونقل المعلومات لكن أيضا على أسواق المال العالمية والتى أصبحت شديدة
الترابط، فما يحدث فى اقتصاد البلدان الكبرى يؤثر فى باقى اقتصاديات العالم خاصة
الدول النامية وهو ما يتجلى بوضوح فى حالة الاقتصاد المصرى. فى ظل وضع الاقتصاد
العالمى الحالى، يمكن تحديد ثلاثة قوى اقتصادية عظمى تشهد تطورات اقتصادية لها أثر
على الاقتصاد المصرى.
الأولى: أوروبا
منذ حدوث الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨ والاقتصاد الأوروبى يقبع فى
الركود حتى بعد مرور قرابة ٧ سنوات. فمازالت منطقة اليورو غير قادرة على استعادة
معدلات النمو لمستويات ما قبل الأزمة. ومع استمرار الركود فى أوروبا، فإن الطلب
على الصادرات المصرية فى الفترة الأخيرة قد انخفض. ولكى تستطيع أوروبا الخروج من
الركود، انتهج البنك المركزى الأوروبى سياسة التيسير الكمى بخلق كمية كبيرة من
النقود لتحفيز الأفراد على الاستهلاك والاستثمار. تلك السياسة أدت إلى انخفاض
اليورو بشكل كبير أمام العملات الأخيرة وهو ما كان له أثر سلبى على الاقتصاد
المصرى، حيث إن انخفاض اليورو أمام الجنيه رفع سعر الصادرات المصرية لأوروبا
وبالتالى خفض من تنافسيتها. فعلى الرغم من انخفاض الجنيه أمام الدولار لقرابة ٦٪
فى الربع الأول من العام إلا أن الجنيه قد ارتفع أمام اليورو لقرابة ٢٪ خلال نفس
الفترة. ولعل ذلك ما يفسر انخفاض الصادرات المصرية غير البترولية فى تلك الفترة
لقرابة ٢١٪ مقارنة بالعام الماضى، حيث إن نحو ثلث الصادرات المصرية يذهب للاتحاد
الأوروبى.
كما أن الركود الاقتصادى وهشاشة العديد من البنوك الأوروبية يؤثر بلا
شك على قدرة الشركات الأوروبية على الاستثمار فى مصر وهو ما انعكس بالفعل على خروج
العديد من البنوك الأوروبية أخيرا من السوق المصرية. وقد يكون من المنطقى عدم توقع
المزيد من الاستثمارات على المدى القصير. فقد يتصور البعض أن ذلك لن يضر، لكن
بالنظر للاستثمارات الأوروبية يوضح أنها كانت تمثل قرابة ٨٠٪ من الاستثمارات
الأجنبية فى العقد الذى سبق ٢٥ يناير.
لكن على صعيد آخر، فإن ذلك الوضع الصعب يجعل الشركات الأوروبية فى
قطاع المقاولات والبنية التحتية مقبلة على السوق المصرية، رغبة فى الحصول على عقود
المشروعات القومية المطروحة حتى ولو بأسعار منخفضة. ومع هذه التطورات، ينبغى إعادة
النظر فى تحفيز الصادرات بعيدا عن المنافسة السعرية والتى لن تكون مكمن قوة فى
السوق الأوروبية. كما يجب على الحكومة بناء توقعات أكثر تحفظا على قدرة الشركات
الأوروبية على الاستثمار فى مصر، بينما يجب التفاوض مع الشركات الأوروبية للحصول على
أسعار وتسهيلات طويلة فى العقود الحكومية.
الثانية: أمريكا
على عكس أوروبا، فقد استطاعت أمريكا التعافى من الأزمة المالية، حيث
عاود اقتصادها للنمو بمعدلات تخطت ٥٪ أخيرا بعد أن انتهج الفيدرالى الأمريكى سياسة
التيسير الكمى بخلق النقود بكميات هائلة لسنوات مما أدى إلى توافر السيولة بشكل
كبير لتساعد على تحفيز النمو. لكن بعد أن عاود الاقتصاد النمو، قام الفيدرالى
الأمريكى خلال العام الماضى بوقف خلق النقود، كما يمهد لرفع سعر الفائدة خلال
العام الحالى، مما يعنى أن عصر الأموال الرخيصة قارب على الانتهاء.
ومع ارتفاع سعر الفائدة فى أمريكا، فإن توافر السيولة المتاحة لصناديق
الاستثمار الأمريكية للاستثمار فى مصر سواء فى السندات أو الأسهم ستنخفض نسبيا،
كما أن ذلك سيؤدى إلى رفع سعر الفائدة على السندات المصرية التى تنوى الحكومة
طرحها بالدولار وهو ما سيعنى ارتفاع تكلفة الاقتراض نسبيا.
من ناحية أخرى، فإن الأعوام الأخيرة شهدت تغيرا فى السياسة الأمريكية
تجاه منطقة الشرق الأوسط التى انقلبت رأسا على عقب بينما لا يبدو أن أمريكا لديها
الرغبة فى التدخل بشكل كبير كسابق عهدها ومما لا شك فيه أن ذلك سيؤثر على رغبة
المؤسسات والشركات الأمريكية فى الاستثمار فى مصر مقارنة بالعقد الذى سبق ٢٥ يناير
والذى شهد استثمارات أمريكية فى مجالات الطاقة والصناعة وسوق المال. ولعل هذه
التطورات المختلفة تجعل من الضرورى على الحكومة المصرية إعادة النظر فى دور أمريكا
المتوقع فى مساعدة الاقتصاد المصرى، سواء على صعيد الاستثمار أو الإقراض. كما أنه
قد يكون من الحكمة الإسراع فى الاقتراض الخارجى قبل ارتفاع أسعار الفائدة.
الثالثة: الصين
ساهمت سنوات طويلة من النمو السريع فى الصين، والتى توصف بأنها مصنع
العالم، فى تراكم كميات هائلة من النقود حيث يقدر احتياطى النقد الأجنبى لدى الصين
لقرابة ٤ تريليون دولار .وعلى الرغم من الركود العالمى بعد الأزمة المالية
العالمية إلا أن الاقتصاد الصينى استطاع أن يجتاز الأزمة المالية العالمية إلى حد
كبير حتى إن الصين بدأت تبحث عن دور أكبر فى الاقتصاد العالمى بتدشين بنك تنموى
جديد برأس مال يقارب ١٠٠ مليار دولار توجهه الصين ويهدف لتمويل الاستثمار فى
البنية التحتية فى الدول النامية وهو ما سيكون منافسا للبنك الدولى إلى حد كبير.
وسيمثل ذلك البنك فرصة جيدة لدولة مثل مصر تسعى لتمويل العديد من المشروعات
القومية فى مجال البنية التحتية فى الفترة القادمة. كما أن الوضع الأمنى المضطرب
الذى تشهده مصر والذى دائما ما يكون مصدر إزعاج للمستثمرين الغربيين قد لا يشكل
مشكلة للمستثمرين الصينيين الذين توسعوا فى أفريقيا فى دول أشد اضطرابا من مصر.
الخلاصة أن الاقتصاد المصرى يتأثر بشكل كبير بما يحدث من تطورات فى
الاقتصاد العالمى. فمع التطورات الاقتصادية الكبيرة فى أوروبا وأمريكا والصين، على
الحكومة المصرية أن تعدل بوصلتها بتخفيض توقعاتها عن الاستثمارات الأوربية
والأمريكية بينما عليها التوجه للصين التى تتحول لمستثمر عالمى فى البنية التحتية
وإقامة شراكة استراتيجية معها. كما أن على الحكومة إعادة النظر فى العلاقة مع
أوروبا، الشريك التجارى الأكبر لمصر، فى ما يتعلق بالصادرات وعقود المقاولات
الحكومية، وكذلك الإسراع فى الاقتراض الخارجى قبل ارتفاع أسعار الفائدة عالميا.
عمر الشنيطى
30 - مايو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"