Saturday, May 30, 2015

التطورات الاقتصادية العالمية والاقتصاد المصرى

مع تطور تكنولوجيا الاتصالات أصبح العالم قرية صغيرة. ولا يقتصر ذلك على التواصل ونقل المعلومات لكن أيضا على أسواق المال العالمية والتى أصبحت شديدة الترابط، فما يحدث فى اقتصاد البلدان الكبرى يؤثر فى باقى اقتصاديات العالم خاصة الدول النامية وهو ما يتجلى بوضوح فى حالة الاقتصاد المصرى. فى ظل وضع الاقتصاد العالمى الحالى، يمكن تحديد ثلاثة قوى اقتصادية عظمى تشهد تطورات اقتصادية لها أثر على الاقتصاد المصرى.

الأولى: أوروبا 
منذ حدوث الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨ والاقتصاد الأوروبى يقبع فى الركود حتى بعد مرور قرابة ٧ سنوات. فمازالت منطقة اليورو غير قادرة على استعادة معدلات النمو لمستويات ما قبل الأزمة. ومع استمرار الركود فى أوروبا، فإن الطلب على الصادرات المصرية فى الفترة الأخيرة قد انخفض. ولكى تستطيع أوروبا الخروج من الركود، انتهج البنك المركزى الأوروبى سياسة التيسير الكمى بخلق كمية كبيرة من النقود لتحفيز الأفراد على الاستهلاك والاستثمار. تلك السياسة أدت إلى انخفاض اليورو بشكل كبير أمام العملات الأخيرة وهو ما كان له أثر سلبى على الاقتصاد المصرى، حيث إن انخفاض اليورو أمام الجنيه رفع سعر الصادرات المصرية لأوروبا وبالتالى خفض من تنافسيتها. فعلى الرغم من انخفاض الجنيه أمام الدولار لقرابة ٦٪ فى الربع الأول من العام إلا أن الجنيه قد ارتفع أمام اليورو لقرابة ٢٪ خلال نفس الفترة. ولعل ذلك ما يفسر انخفاض الصادرات المصرية غير البترولية فى تلك الفترة لقرابة ٢١٪ مقارنة بالعام الماضى، حيث إن نحو ثلث الصادرات المصرية يذهب للاتحاد الأوروبى.

كما أن الركود الاقتصادى وهشاشة العديد من البنوك الأوروبية يؤثر بلا شك على قدرة الشركات الأوروبية على الاستثمار فى مصر وهو ما انعكس بالفعل على خروج العديد من البنوك الأوروبية أخيرا من السوق المصرية. وقد يكون من المنطقى عدم توقع المزيد من الاستثمارات على المدى القصير. فقد يتصور البعض أن ذلك لن يضر، لكن بالنظر للاستثمارات الأوروبية يوضح أنها كانت تمثل قرابة ٨٠٪ من الاستثمارات الأجنبية فى العقد الذى سبق ٢٥ يناير.

لكن على صعيد آخر، فإن ذلك الوضع الصعب يجعل الشركات الأوروبية فى قطاع المقاولات والبنية التحتية مقبلة على السوق المصرية، رغبة فى الحصول على عقود المشروعات القومية المطروحة حتى ولو بأسعار منخفضة. ومع هذه التطورات، ينبغى إعادة النظر فى تحفيز الصادرات بعيدا عن المنافسة السعرية والتى لن تكون مكمن قوة فى السوق الأوروبية. كما يجب على الحكومة بناء توقعات أكثر تحفظا على قدرة الشركات الأوروبية على الاستثمار فى مصر، بينما يجب التفاوض مع الشركات الأوروبية للحصول على أسعار وتسهيلات طويلة فى العقود الحكومية.

الثانية: أمريكا 
على عكس أوروبا، فقد استطاعت أمريكا التعافى من الأزمة المالية، حيث عاود اقتصادها للنمو بمعدلات تخطت ٥٪ أخيرا بعد أن انتهج الفيدرالى الأمريكى سياسة التيسير الكمى بخلق النقود بكميات هائلة لسنوات مما أدى إلى توافر السيولة بشكل كبير لتساعد على تحفيز النمو. لكن بعد أن عاود الاقتصاد النمو، قام الفيدرالى الأمريكى خلال العام الماضى بوقف خلق النقود، كما يمهد لرفع سعر الفائدة خلال العام الحالى، مما يعنى أن عصر الأموال الرخيصة قارب على الانتهاء.

ومع ارتفاع سعر الفائدة فى أمريكا، فإن توافر السيولة المتاحة لصناديق الاستثمار الأمريكية للاستثمار فى مصر سواء فى السندات أو الأسهم ستنخفض نسبيا، كما أن ذلك سيؤدى إلى رفع سعر الفائدة على السندات المصرية التى تنوى الحكومة طرحها بالدولار وهو ما سيعنى ارتفاع تكلفة الاقتراض نسبيا.

من ناحية أخرى، فإن الأعوام الأخيرة شهدت تغيرا فى السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط التى انقلبت رأسا على عقب بينما لا يبدو أن أمريكا لديها الرغبة فى التدخل بشكل كبير كسابق عهدها ومما لا شك فيه أن ذلك سيؤثر على رغبة المؤسسات والشركات الأمريكية فى الاستثمار فى مصر مقارنة بالعقد الذى سبق ٢٥ يناير والذى شهد استثمارات أمريكية فى مجالات الطاقة والصناعة وسوق المال. ولعل هذه التطورات المختلفة تجعل من الضرورى على الحكومة المصرية إعادة النظر فى دور أمريكا المتوقع فى مساعدة الاقتصاد المصرى، سواء على صعيد الاستثمار أو الإقراض. كما أنه قد يكون من الحكمة الإسراع فى الاقتراض الخارجى قبل ارتفاع أسعار الفائدة.

الثالثة: الصين
ساهمت سنوات طويلة من النمو السريع فى الصين، والتى توصف بأنها مصنع العالم، فى تراكم كميات هائلة من النقود حيث يقدر احتياطى النقد الأجنبى لدى الصين لقرابة ٤ تريليون دولار .وعلى الرغم من الركود العالمى بعد الأزمة المالية العالمية إلا أن الاقتصاد الصينى استطاع أن يجتاز الأزمة المالية العالمية إلى حد كبير حتى إن الصين بدأت تبحث عن دور أكبر فى الاقتصاد العالمى بتدشين بنك تنموى جديد برأس مال يقارب ١٠٠ مليار دولار توجهه الصين ويهدف لتمويل الاستثمار فى البنية التحتية فى الدول النامية وهو ما سيكون منافسا للبنك الدولى إلى حد كبير. وسيمثل ذلك البنك فرصة جيدة لدولة مثل مصر تسعى لتمويل العديد من المشروعات القومية فى مجال البنية التحتية فى الفترة القادمة. كما أن الوضع الأمنى المضطرب الذى تشهده مصر والذى دائما ما يكون مصدر إزعاج للمستثمرين الغربيين قد لا يشكل مشكلة للمستثمرين الصينيين الذين توسعوا فى أفريقيا فى دول أشد اضطرابا من مصر.

الخلاصة أن الاقتصاد المصرى يتأثر بشكل كبير بما يحدث من تطورات فى الاقتصاد العالمى. فمع التطورات الاقتصادية الكبيرة فى أوروبا وأمريكا والصين، على الحكومة المصرية أن تعدل بوصلتها بتخفيض توقعاتها عن الاستثمارات الأوربية والأمريكية بينما عليها التوجه للصين التى تتحول لمستثمر عالمى فى البنية التحتية وإقامة شراكة استراتيجية معها. كما أن على الحكومة إعادة النظر فى العلاقة مع أوروبا، الشريك التجارى الأكبر لمصر، فى ما يتعلق بالصادرات وعقود المقاولات الحكومية، وكذلك الإسراع فى الاقتراض الخارجى قبل ارتفاع أسعار الفائدة عالميا.

عمر الشنيطى
30 - مايو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, May 16, 2015

شكوى الناس من ضيق الحال: حقيقة أم مبالغة؟

هناك موجة كبيرة أخيرا من الشكوى من ارتفاع الأسعار وصعوبة الحياة. تلك الشكوى لا تقتصر على محدودى الدخل بل إن الكثير من ميسورى الحال يشاركونهم فى الشكوى حتى إن بعض المديرين فى الشركات الخاصة والشركات متعددة الجنسيات يتحدثون بنفس النبرة. لذلك قد يكون من المفيد النظر للمؤشرات الاقتصادية على المستوى الكلى وكذلك مستوى الأفراد لمعرفة تطور القوة الشرائية الحقيقى أخيرا.
بداية يجدر بنا النظر لحجم الاقتصاد الكلى. كما يقاس حجم الشركة بإيراداتها والتى تعكس إجمالى ما تنتجه وتبيعه الشركة خلال عام، كذلك يقاس حجم الاقتصاد بإجمالى ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات خلال عام وهو ما يعرف بالناتج المحلى. وكلما زاد الناتج المحلى، كلما زاد حجم الاقتصاد حيث تزيد كمية السلع والخدمات المنتجة والقابلة للاستهلاك. لكن ما يهم هو النمو الحقيقى فيما ينتجه الاقتصاد من سلع وخدمات، بعد خصم التضخم، وليس الزيادة الاسمية فى حجم الاقتصاد والتى قد تنتج من ارتفاع الأسعار لكن لا تصاحبها زيادة حقيقية فى حجم السلع المنتجة.
فعائلة لديها قائمة من عشر سلع تستهلكها شهريا ستكون سعيدة بدخل ألف جنيه لو يستطيع شراء قائمة السلع، بينما ستكون فى غاية البؤس لو زاد دخلها عشرة أضعاف لكن هذا الدخل المرتفع اسميا عاجز عن شراء قائمة المنتجات الأساسية. فما يهم هو الناتج المحلى الحقيقى وليس الاسمى. فإذا نما الناتج المحلى ١٥٪ فى سنة بينما كان التضخم ١٠٪ خلال تلك السنة، فإن ذلك يعنى أن الاقتصاد الحقيقى زاد ٥٪ فقط. وكان الناتج المحلى الحقيقى يزداد سنويا بمعدل ٥ــ٧٪ فى العقد الذى سبق ثورة ٢٥ يناير لكن هذا النمو انخفض لمتوسط ٢٪ فى السنوات التى تلت ثورة ٢٥ يناير ثم ما لبث أن بدأ فى التعافى أخيرا ليقارب ٤٪ فى العام المالى الحالى.
ومن الجدير بالذكر أن تلك المعدلات مبنية على متوسط تضخم ١٠ــ١٢٪ سنويا حيث يقاس التضخم رسميا من قبل الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، لكن هناك دائما جدلا حول طريقة القياس. وعلى الرغم من تطور طرق القياس أخيرا إلا أن بعض الاقتصاديين يعتقدون أن نسبة التضخم الحقيقة قد تكون أعلى من المعدلات الرسمية بعدة نقاط مئوية. لذلك إذا كان النمو الحقيقى الرسمى فى حدود ٢ــ٤٪ سنويا باحتساب معدلات التضخم الرسمية، فإنه بناء على المعدلات غير الرسمية للتضخم، قد يكون النمو الحقيقى أقل من الصفر.
لكن ما يهم الفرد هو المتاح أمامه للاستهلاك وهو ما يعبر عنه إجمالى الناتج المحلى للفرد. فعند احتساب معدلات نمو دخل الفرد يؤخذ فى الاعتبار زيادة السكان والتى تبلغ نحو ١٫٧٪ سنويا. ولذلك فإذا أخذنا معدل النمو فى الناتج المحلى الرسمى وطرحنا منه التضخم الحقيقى والزيادة السكانية، فيتضح أن متوسط دخل الفرد الحقيقى فى الأعوام الأخيرة قد تناقص بشكل ملحوظ، وهو ما علقت عليه جريدة الايكونومست الشهيرة فى تقرير لها الصيف الماضى.
وهذا الكلام يتطابق مع الواقع. فراتب الموظف يزيد سنويا نحو ١٠٪ فى أغلب الشركات، بيما نسبة التضخم الرسمية فى السنوات الأخيرة تتراوح بين ١٠ــ١٢٪ والنسبة غير الرسمية أعلى بعض الشىء مما يشير إلى أن الدخل الحقيقى لقطاع كبير من الأفراد قد انخفض وبالتالى قوتهم الشرائية قد تناقصت عبر السنوات الأخيرة. قد يستثنى من ذلك بعض موظفى الحكومة والجامعات الذين حصلوا على زيادة كبيرة فى رواتبهم بعد الثورة لكن تلك هى النسبة الأقل، بينما النسبة الأكبر كانت الزيادة فى رواتبهم أقل من زيادة أسعار السلع والخدمات.
يعتقد البعض أن انخفاض القوة الشرائية يقتصر على محدودى الدخل فقط، لكن الأرقام تشير إلى أن الانخفاض ظاهرة عامة ضربت مختلف المستويات، بل إن النظرة العميقة تظهر أن العمال فى بعض الشركات قد استطاعوا من خلال الاعتصامات فى بداية الثورة الحصول على زيادات فى الرواتب لم يستطع المديرون الحصول عليها مما يجعل تضررهم بتناقص القوة الشرائية أقل. لكن يرد على ذلك بضعف رواتب العمال وصغار الموظفين لفترات طويلة وأن هذه الزيادات حتى لو بدت كبيرة، فإنها أقل القليل وجاءت متأخرة جدا. فى النهاية، تظل النتيجة أن القوة الشرائية بشكل عام قد انخفضت عبر السنوات الأخيرة وأن ذلك طال كبار وصغار الموظفين فى القطاع الخاص على حد سواء، مع استثناء الأغنياء وكبار رجال الأعمال والتى تشير التقارير لزيادة ثرواتهم رغم الاضطرابات بسبب زيادة قيمة الأصول المالية والعقارية.
لكن كبار الموظفين يختلفون عن صغارهم. فكبار الموظفين وأصحاب الدخول الكبيرة لديهم المقدرة على امتصاص أثر التضخم إلى حد كبير حيث إن جزءا من دخلهم يذهب للادخار والاستثمار والترفيه بأشكاله مما يجعلهم قادرين على تخفيض تلك البنود إذا ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية. لكن فى حالة صغار الموظفين، فإن الدخل يكاد يغطى البنود الأساسية من مأكل ومشرب ومواصلات وتعليم وصحة وإيجار ولا توجد مساحة لامتصاص التضخم مما يجعل تضررهم من التضخم كبيرا. كما أن الارتفاع الكبير فى أسعار العقارات فى السنوات الأخيرة قد جعل من الصعب على من لا يمتلك عقارا، فى أغلب الأحوال من صغار الموظفين، أن ينضم لفئة ملاك العقارات، كما يزيد من تكلفة الإيجار عليه بشكل كبير.
الخلاصة أن شكوى الناس ليست مفتعلة بل إنها حقيقية حيث ساهم النمو الاقتصادى الضعيف فى السنوات الأخيرة مصحوبا بزيادة معدلات التضخم والزيادة السكانية إلى انخفاض تدريجى لكنه ملحوظ فى متوسط دخل الفرد فى المجتمع. وقد انعكس ذلك على وضع الأفراد التى زادت دخولهم عبر السنوات الأخيرة بمستوى أقل من زيادة أسعار السلع والخدمات الأساسية مما أدى إلى تناقص قوتهم الشرائية. وهذا التناقص ضرب كبار الموظفين قبل صغارهم، فى وقت تجد فيه الشركات صعوبة فى الحفاظ على مستويات أعمالها ومعدلات ربحيتها مما يهدد سوق العمل بهجرة الكفاءات المدربة لأسواق المنطقة الأسرع نموا.
عمر الشنيطى
16 - مايو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, May 2, 2015

تخفيض الجنيه لا يؤدى دائما لزيادة الصادرات

سعر صرف العملة له أهمية اقتصادية كبيرة، حيث إنه يؤثر على أسعار ومستويات الصادرات وبالتالى معدلات الإنتاج والنمو، كما يؤثر على أسعار الواردات ومعدلات التضخم. والتصور المعتمد أن تخفيض الجنيه دائما يؤدى إلى زيادة الصادرات، حيث تنخفض أسعارها وتزيد تنافسيتها فى الأسواق العالمية. وهذا التصور جعل قضية تخفيض الجنيه مطلبا رئيسيا لبعض الاقتصاديين والمصنعين كأداة لتشجيع الصادرات. لكن العلاقة بين تخفيض الجنيه وزيادة الصادرات قد لا تستقيم فى كل الحالات.

بداية يجدر السؤال: لماذا يفترض أن يؤدى تخفيض الجنيه لزيادة الصادرات؟
تخفيض الجنيه يحدث حينما يقوم البنك المركزى، الذى يتحكم فى سعر الصرف، بخفض سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، خاصة الدولار. ويلجأ البنك المركزى لذلك حينما تصبح التدفقات الدولارية الخارجة للاستيراد وما شابه أكبر من التدفقات الدولارية الواردة من التصدير والسياحة وما شابه. وحينما ينخفض الجنيه، فإن الصادرات المصرية ينخفض سعرها بالدولار فى الأسواق العالمية وهو ما يزيد الطلب عليها ويؤدى إلى ارتفاعها. بالاضافة لذلك، حينما ينخفض الجنيه فإن ذلك من المفترض أن يشجع المستثمرين الأجانب على الاستثمار فى مصرو ذلك بإنشاء المصانع بهدف التصدير للخارج وهو ما بدوره سيؤدى إلى زيادة الصادرات وبالتالى زيادة معدلات الإنتاج والنمو.

لكن ما هى تكلفة تخفيض الجنيه؟
على الرغم من الأثر الإيجابى المفترض لتخفيض الجنيه على الصادرات والإنتاج والنمو إلا أنه يأتى بتكلفة اجتماعية كبيرة، حيث إنه يؤدى إلى زيادة أسعار الواردات بالجنيه وبالتالى ارتفاع معدلات التضخم وما يستتبعها من إضعاف القوة الشرائية للأفراد والعائلات. وبما أن جزءا كبيرا من الواردات المصرية هى منتجات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها أو استخدام منتجات محلية بديلا عنها، فإن التضخم الناتج عن تخفيض الجنيه عادة ما يكون شديد الأثر على المجتمع، خاصة الفقراء ومحدودى الدخل.

كيف كانت تجرية الاقتصاد المصرى مع تخفيض الجنيه؟
شهد الاقتصاد المصرى عدة موجات من تخفيض الجنيه فى العقود الأخيرة وعادة ما يحدث ذلك بعد فترة من تراجع ما يتدفق على الاقتصاد من دولار، مقارنة بما يخرج من الاقتصاد من دولار مما يؤدى إلى وجود عجز فى العملة الصعبة يجعل من الصعب على البنك المركزى توفير الدولار اللازم لعمليات الاستيراد والأنشطة التجارية ويؤدى إلى خلق سوق موازية. ومع مرور الوقت، تتفاقم السوق الموازية ويصبح البنك المركزى تحت ضغط لتخفيض الجنيه وسد الفجوة بين السعر الرسمى والسعر الموازى للعملة. وقد شهد العقد الذى سبق ثورة ٢٥ يناير موجة كبيرة لتخفيض الجنيه فى إطار محاولات الحكومة لإصلاح الاقتصاد وتنشيط الصادرات وجذب الاستثمارات، حيث ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه قرابة الضعف خلال تلك الفترة.

لكن على التوازى، شهدت الصادرات ارتفاعا كبيرا خلال نفس الفترة بما يزيد على ثلاثة أضعاف خاصة الصادرات غير البترولية والتى كان لتخفيض الجنيه أثر فى انخفاض أسعارها فى الأسواق العالمية ومن ثم زيادة تنافسيتها. ولعل هذه التجربة كانت دليلا على صحة الافتراض بأن تخفيض الجنيه يؤدى لزيادة الصادرات. فبعد ثورة ٢٥ يناير، عاد الضغط مرة أخرى على الجنيه حيث تراجعت السياحة والاستثمارات الأجنبية بينما زادت الواردات، فاتسعت الفجوة بين الصادر والوارد للاقتصاد من دولار. ودافع البنك المركزى باستماتة عن الجنيه لكن فى النهاية كان عليه أن يلجأ لتخفيض سعر صرف الجنيه.

لكن هل أدى تخفيض الجنيه أخيرا لزيادة الصادرات؟
على عكس التصور المعتمد، فإن تخفيض الجنيه فى السنوات الأخيرة لم يؤد لزيادة الصادرات والتى فى الواقع شهدت تراجعا. ففى عام ٢٠١٢، شهد الجنيه انخفاضا بنحو ٢٫٩٪ مقابل الدولار، لكن واكب ذلك انخفاض أيضا فى الصادرات يصل إلى ١٤٪. أما فى ٢٠١٣، فقد انخفض الجنيه بقرابة ١٢٫٤٪، لكن الصادرات ارتفعت بنحو ٧٪ فقط. بينما فى ٢٠١٤، انخفض الجنيه مجددا بنحو ٢٫٧٪، وواكب ذلك انخفاض للصادرات بنحو ١٫٨٪. وإذا أخذنا السنوات الأربع معا، نجد أن تلك الفترة شهدت انخفاضا كليا فى الجنيه يصل إلى ١٩٪، لكن ذلك لم يواكبه زيادة فى الصادرات والتى على العكس قد انخفضت بنحو ١٠٪ وهو ما يضرب التصور المعتمد فى مقتل.

إذا أين تكمن المشكلة؟
عملية التصدير منظومة متكاملة تتأثر بالعديد من العوامل وليس فقط أسعار الصادرات التى يؤثر فيها سعر صرف الجنيه. ولذلك فإن انخفاض الجنيه ليس كفيلا بتشجيع الصادرات وزيادة حجمها فى وقت شهد فيه الاقتصاد اضطرابات كان بلا شك لها أثر كبير على منظومة التصدير. ويأتى فى هذا الصدد عوامل مختلفة مثل التسويق للمنتجات المصرية عالميا وجودة المنتجات المصرية ومطابقتها للمواصفات العالمية. بالإضافة لذلك، فإن السنوات الاخيرة شهدت العديد من الاضطرابات الأمنية التى أثرت على عملية الإنتاج وبالتالى قدرة الشركات على التصدير. وزاد الأمر أخيرا مع صعوبة الاستيراد بعد قرارات البنك المركزى الأخيرة المتعلقة بالدولار لتعيق حركة الإنتاج والتصدير، حيث إن الكثير من الصادرات المصرية تعتمد فى تصنيعها على بعض المواد الخام والمنتجات المستوردة. ولعل هذه المشكلات تشير إلى أهمية إعادة النظر فى منظومة التصدير التى تحتاج لاستراتيجية تنافسية متكاملة وليس فقط المزيد من التخفيض للجنيه.

الخلاصة أن التصور المعتمد يقضى بأن تخفيض الجنيه يؤدى لزيادة الصادرات وهو ما تؤيده التجربة المصرية فى العقد الذى سبق ثورة ٢٥ يناير، لكن الواقع بعد الثورة جاء مغايرا لذلك حيث واجه الجنيه ضغطا كبيرا بسبب الفجوة بين الصادر والوارد للاقتصاد من دولار مما أدى لتخفيضه. لكن على عكس المتوقع، واكب ذلك انخفاض فى الصادرات مما يؤكد أن تخفيض الجنيه وبالتالى سعر الصادرات عاملا واحدا ضمن منظومة التصدير والتى تأثرت بعوامل كثيرة أخرى. وفى وقت نستشرف فيه المزيد من التخفيض للجنيه، من المهم إدراك أن تخفيض الجنيه لا يؤدى دائما لزيادة الصادرات، لكن يأتى دائما بتضخم ذى تكلفة اجتماعية كبيرة، وأن تشجيع الصادرات يتطلب استراتيجية تنافسية متكاملة فى الأساس.


عمر الشنيطى
02 - مايو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"