Saturday, June 27, 2015

آن الأوان لقرض صندوق النقد ولكن

مرة أخرى تلوح فى الأفق إمكانية حصول مصر على قرض من صندوق النقد مع توالى بعثات الصندوق لمصر وتقاريره المختلفة. وكما هو معتاد، يؤيد المصرفيون وأهل البورصة قرض الصندوق ويعتبرونه دليلا على ثقة المؤسسة الدولية فى الاقتصاد المصرى، بينما يعترض عليه المعارضون لهيمنة المؤسسات الدولية على الدول النامية مستشهدين بالعديد من التجارب الفاشلة للصندوق. ذلك الخلاف ليس جديدا، لكن الجديد هو الوضع العام الحالى الذى يحيط مساعى مصر للحصول على قرض الصندوق.
قد تكون الحكومة الحالية هى الأحرص فى الحصول على القرض مقارنة بالحكومات السابقة. فعجز الموازنة، المتوقع أن يسجل ٢٨٠ مليار جنيه فى العام القادم على أفضل تقدير، سيزيد الضغط على مصادر التمويل المحلية سواء الاقتراض المحلى الذى يضغط على القطاع أو توسع البنك المركزى فى طباعة النقد لتمويل عجز الموازنة وهو ما يزيد من حدة التضخم. وقد استعانت الحكومة بالمساعدات الخليجية فى العامين الماضيين لتمويل عجز الموازنة، لكن مع تراجع الدعم الخليجى، فإن من المنطقى أن تلجأ الحكومة للاقترض الخارجى. وبالفعل شرعت الحكومة فى ذلك عن طريق طرح سندات دولارية لتوفير العملة الصعبة وتقليل الضغط على الاقتراض المحلى، ومما لا شك فيه أن إتمام اتفاق مع الصندوق سيعطى شهادة ثقة كبيرة تساعد على التوسع فى الاقتراض الخارجى.
أما صندوق النقد فقد عمل جاهدا على إتمام اتفاق مع مصر فى فترة ٢٠١١ــ٢٠١٣ لكن ذلك الجهد لم يكتب له النجاح بسبب الاضطرابات السياسية، كما أن الحكومات المتعاقبة لم تكن مستعدة لإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة والتى بطبيعة الحال كانت قاسية. لكن على الرغم من ذلك، ظل الصندوق مهتما بوضع الاقتصاد المصرى من خلال بعثات متتالية وتقارير عديدة وكذلك المشاركة فى المؤتمر الاقتصادى. ولا يبدو ذلك غريبا، فمصر دولة محورية فى المنطقة وصندوق النقد يحب أن يلعب دورا فى تشكيل سياساتها الاقتصادية ومساعدتها على اجتياز الأزمة الاقتصادية.
فضلا عن رغبة الطرفين على إتمام الاتفاق، فإن التطورات التى شهدها الاقتصاد فى العام الماضى تجعل مصر مؤهلة إلى حد كبير للحصول على قرض الصندوق للأسباب التالية:
أولا: مرت مصر بفترة سياسية وأمنية مضطربة منذ ٢٠١١ لكن الوضع الآن يبدو أكثر استقرارا على الرغم من استمرار أحداث العنف والاضطرابات فى سيناء. وكان الاقتصاد عرضة للانهيار بعد ٣٠ يونيو إلا أن المساعدات الخليجية السخية أعطته قبلة الحياة حتى خرج من مرحلة الخطر.
ثانيا: شهد الاقتصاد المصرى معدلات نمو منخفضة تقارب ٢٪ لمدة أربعة أعوام غير أن المساعدات الخليجية وسياسات الحكومة دفعت معدلات النمو للارتفاع، حيث يتوقع نمو الاقتصاد فى العام الحالى بقرابة ٤٪ والعام القادم بقرابة ٥٪. وعلى الرغم من المخاوف حول استدامة هذا النمو فى ظل تراجع الدعم الخليجى وتباطؤ تدفق الاستثمار الأجنبى إلا أن الصورة الكلية للاقتصاد تبدو مطمئنة إلى حد كبير.
ثالثا: تم تعديل التصنيف الائتمانى لمصر عدة مرات فى العامين الماضيين وأصبحت النظرة المستقبلية للاقتصاد المصرى إيجابية أو مستقرة على أقل تقدير مما يشجع المؤسسات الدولية على اقراض مصر، كما نجحت مصر فى الاقتراض من الخارج عن طريق طرح سندات دولارية وتم تغطية الطرح بنجاح مما يعطى انطباعا جيدا عن ثقة المؤسسات العالمية فى الاقتصاد المصرى.
رابعا: قامت الحكومة برفع أسعار الطاقة ضمن برنامج لتخفيض دعم الطاقة للسيطرة على عجز الموازنة وأوضحت الحكومة استعدادها لرفع أسعار الطاقة مرة أخرى خلال العام الحالى على بعض المنتجات بناء على مستوى أسعار البترول. ولسنوات طويلة ظل ملف دعم الطاقة من المحرم الحديث فيه ولذلك فإن ما حدث يعتبر خطوة جريئة تتماشى مع رؤية صندوق النقد.
خامسا: تتبنى الحكومة برنامج إصلاح اقتصادى تقشفى إلى حد كبير يعمد إلى خفض عجز الموازنة والذى انخفض من ١٣٫٨٪ فى ٢٠١٢/٢٠١٣ ليسجل ١٢٫٨٪ فى ٢٠١٣/٢٠١٤ ومن المتوقع أن يسجل ١٠٫٨٪ فى العام المالى الحالى ثم لينخفض إلى ٩٫٩٪ فى العام القادم. وهذا التطور الإيجابى يطمئن المتابعين على قدرة الحكومة على السيطرة على عجز الموازنة حتى لو على حساب معدلات النمو.
سادسا: دائما ما كان يسود حالة من القلق تجاه الاقتراض الخارجى لكن أخيرا قامت الحكومة بطرح سندات دولارية بقرابة ١٫٥ مليار دولار وكذلك أتمت اتفاق فى مجال الطاقة يتم تمويله بقروض تصل إلى ٩ مليارات دولار مما يعنى أن الحكومة اقترضت ما يزيد على ١٠ مليارات دولار خارجيا وهو ما يمثل نحو ٢٥٪ زيادة فى الديون الخارجية فى بضعة أسابيع ويزيل العائق النفسى أمام الاقتراض من الصندوق.
بناء على ما سبق، فإن الصورة الكلية تكاد تكون مثالية لإتمام اتفاق مع صندوق النقد. ومن المتوقع أن يتم ذلك خلال العام المالى الجديد مع تراجع الدعم الخليجى وحاجة الحكومة لشهادة ثقة دولية ستحسن من الصورة الكلية للاقتصاد وستدفع لتحسين التصنيف الائتمانى مرة أخرى وهذا مما لا شك فيه سيفتح الباب للمزيد من الاقتراض الخارجى بشروط وتكلفة جيدة نسيبا. وسيوفر الاقتراض الخارجى عملة صعبة ستساعد البنك المركزى على الحد من الانخفاض السريع فى الجنيه.
لكن مثل هذا التوجه لا يخلو من المخاطر. ففى ظل وضع عام كل ما يجرى فيه يحدث بشكل عملاق كالمشروعات القومية وصفقات الطاقة الكبرى، فإن الإنفتاح على الاقتراض الخارجى سيؤدى على الأغلب لزيادة كبيرة فى الديون الخارجية والتى قد تتضاعف فى السنوات القليلة القادمة سواء من خلال قرض الصندوق أو إصدار السندات أو تمويل وكالات ائتمان الصادرات. للوهلة الأولى، سيبدو ذلك تطورا إيجابيا لكن بمرور الوقت ومع التمادى فى الاقتراض الخارجى قد تقع مصر فى فخ ديون خارجية لا يحمد عقباه. بالإضافة لذلك، فإن اتمام قرض الصندوق مرتبط بالتزام الحكومة ببرنامج الإصلاح الاقتصادى والذى يسعى لخفض عجز الموازنة برفع دعم الطاقة والعديد من الإجراءات الصارمة التى تزيد من حدة التضخم وتدهور الأوضاع الاجتماعية المسكوت عنها.

عمر الشنيطى
27 - يونيه - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, June 13, 2015

الصفقات الاقتصادية والمكاسب السياسية

الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. فالشراكة مع الخليج بعد ٣٠ يونيو انعكست على تدفق المساعدات التى منعت انهيار الاقتصاد، فى مثال على المكاسب الاقتصادية للصفقات السياسية. لكن هل ممكن أن نحصل على مكاسب سياسية اعتمادا على اقتصادنا؟ وهل وضع اقتصادنا حاليا يمكن الاعتماد عليه للحصول على أية مكاسب سياسية؟

اعتمدت مصر فى العامين الماضيين على تلقى الدعم الخليجى اعتمادا على وضع مصر الإقليمى والتحالف بين مصر والخليج. فى ظل الوضع الحالى حيث يعانى الاقتصاد على أصعدة مختلفة، من الصعب توقع صفقات كبيرة تخرج من مصر بينما التصور الأكثر واقعية هو تدفق الاستثمارات الأجنبية على مصر فى صورة مباشرة أو بالشراكة مع الحكومة. وقد تم التأكيد على ذلك خلال المؤتمر الاقتصادى حيث تم الإعلان على استثمارات ومذكرات تفاهم بعشرات المليارات من الدولارات.

لكن بشكل مفاجئ، تم الإعلان عن صفقة كبيرة بين الحكومة المصرية وإحدى الشركات الألمانية العملاقة تبلغ قيمتها ٩ مليارات دولار، هى الأكبر فى تاريخ الشركة، حيث أسندت الحكومة هذا العقد بالأمر المباشر لإنشاء محطات لتوليد الكهرباء يتم تسليمها بدءا من ٢٠١٧ وتعمل بالغاز فى الأساس وكذلك بطاقة الرياح بطاقة إجمالية ١٦٫٤ جيجا وات وهو ما يمثل ٥٠٪ زيادة عن الطاقة الحالية لشبكة الكهرباء. للوهلة الأولى قد يتصور السامع أن هذه استثمارات أجنبية جديدة، لكن الحقيقة أنها ليست استثمارات ولكن أمر مباشر للشركة الألمانية لبناء تلك المحطات على نفقة الحكومة المصرية.

ألم يكن من الأفضل أن تكون تلك المحطات فى صورة استثمارات أجنبية، بدلا من إنشائها على نفقة الحكومة؟ بالتأكيد الاستثمارات تعتبر خيارا أفضل، لكن الوضع السياسى المضطرب محليا وإقليميا يعيق تدفق الاستثمارات على المدى القصير؛ ولذلك فعلى الحكومة أن تستثمر بنفسها فى زيادة توليد الكهرباء. وبطبيعة الحال، زيادة طاقة الشبكة خبر جيد للمصريين حيث سيخفض من الانقطاعات المتكررة للكهرباء والتى تؤثر سلبا على الشركات والأفراد. كما أن الزيادة الكبيرة المتوقعة فى طاقة الشبكة من شأنها أن تفتح المجال أمام الاستثمار فى القطاعات الأخرى والتى كانت دائما تعانى من أزمة انقطاع الكهرباء.

لكن فى ذلك عجز الموازنة المتصاعد، كيف ستستطيع الحكومة تمويل هذه الصفقة؟ الشركة الألمانية قامت بتوفير تمويل للصفقة عن طريق قروض من وكالات ائتمان الصادرات الألمانية والدنماركية. وهذا الشكل التمويلى قد يكون الحل الأمثل لتمويل تلك الصفقات. وسيكون على الحكومة الاعتماد على إيرادات بيع الكهرباء لخدمة مستحقات تلك القروض الجديدة. ولذلك فإن الحكومة على الأرجح ستقوم بإلغاء الدعم سريعا حتى تباع الكهرباء محليا بأسعار قريبة من السعر العالمى خاصة للشركات، كما أنها ستسعى لرفع كفاءة تحصيل الفواتير من خلال تطبيق آليات كروت شحن الكهرباء وغيرها فى القريب العاجل.

تبدو تلك الصفقة جيدة، لكن هل كان لزاما أن تتم مع شركة ألمانية؟ ألم يكن هناك بدائل؟ من منظور اقتصادى، فإن الشركات الألمانية تتميز بسمعة جيدة من حيث الجودة، لكن أسعارها عادة ما تكون مرتفعة مقارنة بالشركات الآسيوية. كما أن إسناد الصفقة بالأمر المباشر يعطى مساحة للشركة لتحقيق هامش ربح كبير على الأرجح، بعيدا عن قانونية إسناد العقود بالأمر المباشر. من ناحية أخرى، فإن الاقتراض من مؤسسات مالية أوروبية سيكون بتكلفة مرتفعة نسبيا مقارنة بمؤسسات مالية عالمية وتنموية أخرى.

كما توجد علامات استفهام حول الحاجة لزيادة طاقة شبكة الكهرباء بنسبة ٥٠٪ من خلال تلك الصفقة فقط فى ظل تعاقدات الحكومة مع جهات متعددة لإنشاء محطات أخرى تعمل بالفحم والطاقة الشمسية وغيرها. بالإضافة لذلك، تعانى الحكومة من عدم القدرة على توفير الوقود اللازم لتشغيل المحطات بشكل دائم وهذه المشكلة ستتفاقم مع دخول المحطات المتعاقد عليها للخدمة. على الرغم من تلك التحفظات، فإن الحصول على ذلك التمويل الكبير يعد إنجازا بعد فترة من انقطاع تدفق التمويل الأجنبى وهو ما يشير إلى الرؤية الإيجابية عن تعافى الاقتصاد المصرى حتى لو تم ذلك على فترة ممتدة وقابلته عقبات عديدة.

لكن ألم تكن هناك بدائل أخرى؟ بطبيعة الحال، الشركة الألمانية ليست الوحيدة فى العالم فى ذلك المجال رغم كفاءتها، وهناك شركات عالمية أخرى كبيرة. كما أن بعض الشركات الآسيوية خاصة الصينية قد تكون أنسب فى مثل هذا الصدد حيث إن تكلفتها على الأغلب ستكون أرخص، كما أن وكالات ائتمان الصادرات الآسيوية لديها قدرة عالية على تمويل مثل هذه المشروعات بشروط أفضل وتكلفة أقل، مما قد يجعل التوجه للشرق أفضل اقتصاديا.

إذا لماذا التوجه للشركة الألمانية فى حين يمكن الحصول على التمويل من الصين بشكل أفضل؟ بجانب قضية جودة وكفاءة الشركة الألمانية، فإن حجم الصفقة وإسنادها بالأمر المباشر يشير إلى أبعاد سياسية. لقرابة عامين، والعلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبى أقل ما يقال عنها إنها متوترة، ولعل التأهب والتحضيرات لزيارة الرئيس السيسى الاخيرة لألمانيا توضح مدى حساسية الوضع واهتمام مصر بإعادة فتح مجال للعلاقات مع الاتحاد الإوروبى.

وبطبيعة الحال قد لا يكون هناك أفضل من ألمانيا كحليف للقيام بذلك لأهمية الدور الألمانى فى الاتحاد الأوروبى سياسيا واقتصاديا. لا يعنى ذلك أن العلاقات مع ألمانيا أو حتى زيارة الرئيس لم تكن لتحدث بدون هذه الصفقة، لكن بالتأكيد تلك الصفقة الضخمة المسندة بالأمر المباشر أوجدت مصالح مشتركة كبيرة ومهدت الطريق لاستعادة العلاقات، حتى ولو تدريجيا.

الخلاصة أنه كان من المعتاد أن تعتمد مصر على أهميتها السياسية ودورها الإقليمى فى الحصول على مكاسب ومساعدات اقتصادية، لكن الصفقة الأخيرة لتوليد الكهرباء مع الشركة الألمانية تأتى كمثال لصفقة اقتصادية أتاحت مكاسب سياسية كبيرة للحكومة المصرية. وعلى الرغم من التحفظ على الإسناد المباشر للصفقة والقدرة على توفير الوقود اللازم لتشغيل المحطات، إلا أن زيادة طاقة الشبكة وتمويل الصفقة أوروبيا يعكس مكاسب اقتصادية كبيرة والأهم من ذلك أن تلك الصفقة تزيد من المصالح المشتركة وتساهم فى تحريك المياه الراكدة فى نهر العلاقات المصرية الأوروبية.

عمر الشنيطى
13 - يونيه - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"