Saturday, September 26, 2015

سبعة دروس من تجربة سنغافورة

نفتخر دائما كمصريين بتاريخنا العريق، وفى الحقيقة يحق لنا أن نفخر بذلك التاريخ الحافل والذى يمتد لقرابة ٧٠٠٠ سنة حيث كانت مصر مهدا للحضارة. لكننا لا نفتخر فقط بالماضى السحيق والحضارة الفرعونية، فالأجداد أيضا مازالوا يتباهون بالوضع الذى كانت عليه مصر منذ خمسين عام سواء من حيث نظافة الشوارع أو توافر السلع والخدمات أو أخلاق الناس مقارنة بالوضع الحالى لمصرنا العزيزة، آملين أن تعود عقارب الساعة للوراء حتى نعيش فترة مماثلة.
وبينما نحلم بالرجوع للماضى، تمضى دول أخرى فى مسيرتها لتتحول من دول فقيرة بائسة إلى دول متقدمة تكنولوجيا وشعبها متعلم وميسور الحال. وتعتبر سنغافورة مثالا حيا على ذلك، إذ احتفلت الشهر الماضى بمرور خمسين سنة على تأسيسها حيث شهدت البلاد فى تلك الفترة تحولا كبيرا من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة ٥٠٠ دولار لبلد متقدم أغلب شعبه متعلم ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن ٧٠ ألف دولار. فعندما يزيد دخل الفرد ١٤٠ ضعفا فى غضون ٥٠ سنة فهذا إنجاز كبير يستحق الدراسة عن كثب لاكتساب الخبرات. ويمكن فى هذا الصدد استخلاص سبعة دروس مستفادة.
الأول: التاريخ لا يخبرنا الكثير عن مستقبل الدول: مصر لديها تاريخ عريق لكن وضعها الاقتصادى ليس جيدا حيث تقبع فى حالة اقتصادية متردية منذ يناير ٢٠١١ حتى أصبح قرابة ربع سكانها يعيشون تحت خط الفقر. أين ذهب التاريخ؟ للأسف لم يشفع لأصحابه، بينما سنغافورة صاحبة الخمسة عقود استطاعت أن تبنى اقتصادا قويا وأن تحقق تنمية مستدامة جعلت مواطنيها من الأكثر رفاهية على مستوى العالم مما يثبت أن مقولة «من ليس له تاريخ ليس له مستقبل» ليست صحيحة بالضرورة ولذلك علينا التركيز على مستقبلنا.

الثانى: الحجم ليس معيارا هاما لتقدم الدول: تجربة سنغافورة أثبتت أن الحجم ليس عاملا هاما فى نهضة الدول حيث أن تلك الدولة الحديثة يبلغ مساحتها قرابة ٧٠٠ كيلو متر مربع وخُمس تلك المساحة لم تكن موجودة عند تأسيس الدولة بل تم ردم المياه لتوسيع البلد، كما أن عدد سكان البلد يبلغ ٥٫٥ مليون نسمة فقط. تلك الأرقام تعتبر هزيلة إذا ما قورنت بمصرنا العزيزة والتى تبلغ مساحتها مليون كيلو متر مربع لكن أغلبها غير مستغلة حيث يعيش أغلب شعبها الذى يبلغ تعداده قرابة ٩٠ مليون نسمة على أقل من عُشر تلك المساحة. لذا من المهم أن نعى أن الحجم الكبير لا يفيد كثيرا طالما لا يحسن استخدامه للارتقاء بحياة الناس.

الثالث: التجانس الاجتماعى يمكن الوصول له حتى مع اختلاف الأعراق: بلد حديث كسنغافورة ورث توليفة عرقية ليست بالسهلة يطغى عليها العرق الصينى الذى يمثل ثلاثة أرباع السكان متعايشين مع أعراق أخرى كالهنود والماليزيين استطاعوا جميعا التعايش معا رغم اختلافاتهم العرقية والدينية وذلك لأن الدولة سعت لإيجاد هوية واحدة استطاعت تجميع الكل وكذلك استطاعت الحفاظ على التوزيع النسبى لتلك الأعراق منذ التأسيس. وذلك التجانس الاجتماعى يعطى درسا هاما لمصر وباقى دول المنطقة على أهمية احتواء التيارات والأعراق المختلفة وتوحيدهم تحت هوية واحدة تربط الجميع.

الرابع: غياب الموارد الطبيعية لا يعوق التنمية والتقدم: سنغافورة فقيرة فى الموارد الطبيعة من بترول وغيره لكن ذلك لم يعقها عن التنمية حيث استطاعت أن تضع نفسها على الخريطة كمركز مالى ولوجيستى عالمى واستطاعت التركيز على الصناعات التكنولوجية مما أدى لزيادة إنتاجية ودخل الفرد بشكل كبير. ولذلك يحق لنا فى مصر أن نسعد باكتشافات الغاز الأخيرة لكن لا يجب أن تؤدى تلك الاكتشافات لتأجيل الإصلاحات الاقتصادية والعمل على بناء نظام اقتصادى يحدث تنمية مستدامة.

الخامس: الإنفاق العسكرى المرتفع لا يتعارض مع التنمية: على عكس المتوقع، فإن تلك الدولة الصغيرة تعتبر من أكثر دول العالم من حيث الإنفاق العسكرى مقارنة بحجم اقتصادها. لكن الإنفاق العسكرى الكبير نسبيا لم يعق سنغافورة عن تحقيق تنمية مستدامة بالاستثمار فى قطاع التعليم وتنمية الصناعات التكنولوجية. وهذا أيضا درس محورى لمصرنا العزيزة التى توسعت أخيرا فى تسليح الجيش لرفع قدراته القتالية تواكبا مع التحديات المحلية والإقليمية ومن المهم أن يكون هناك توازن بين الإنفاق العسكرى والاستثمار فى التنمية المستدامة.

السادس: الاضطرابات السياسية الإقليمية لا تتعارض مع التنمية: سنغافورة ليست منعزلة عن مشاكل إقليمها حيث ولدت من رحم مشكلة إقليمية أخرجتها من تحالف مع ماليزيا على خلفية تهديدات من إندونيسيا. المتابع للوضع الإقليمى الحرج الذى تأسست فى ظله سنغافورة منذ خمسين سنة لا يمكن أن يتوقع هذا النمو المذهل، لكن سنغافورة استطاعت أن توازن بين إدارة أجندتها الإقليمية والنهوض باقتصادها المحلى وهو ما يجب على مصر أن تنتبه له؛ حيث إن وضع منطقتنا المتقلب على الأرجح لن يستقر على المدى القصير بينما النهوض بالاقتصاد المصرى لا يحتمل التأخير.

السابع: سوء الوضع الاقتصادى لا يمنع تحقيق إنجاز فى فترة وجيزة: بدأت سنغافورة من وضع اقتصادى حرج وبدون موارد طبيعية فى ظل تحديات اجتماعية وسياسية كبيرة لكن ذلك لم يمنعها من أن تكون قصة نجاح كبيرة خلال بضعة عقود وتلك فترة قصيرة فى حياة الدول. قد تشعرنا تلك القصة بالاكتئاب على ما أضعناه فى الخمسين سنة الماضية لكن فى نفس الوقت تبعث برسالة إيجابية على إمكانية تكرار ذلك النجاح فى مصر فى فترة قصيرة قد تتطلب من باب الواقعية عقدا أو عقدين، وليس مجرد عدة سنوات.

آن الأوان لنا كمصريين أن نركز على وضعنا الحالى وأن نعمل على تحسين المستقبل بدلا من التباهى بتاريخنا العريق الذى لا ينكره أحد. فالوضع الاقتصادى حرج ولا يستطيع أحد أن ينكره حيث يشكو المواطنون من عدم إحساسهم بتحسن حقيقى على الأرض مما يجعل من الضرورى التركيز على تحسين الوضع الاقتصادى بالتعلم من التجارب الاقتصادية الناجحة كسنغافورة التى استطاعت أن تنجز الكثير فى فترة وجيزة على الرغم من صعوبة وضعها السياسى والاقتصادى والاجتماعى وقت تأسيسها.

عمر الشنيطى
27 - سبتمبر - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, September 5, 2015

حينما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن

الاقتصاد العالمى أصبح شديد التشابك، إذ أن ما يحدث فى الدول الكبرى يمتد أثره ليشمل باقى دول العالم. بعض الدول تلعب دورا كبيرا فى توجيه الاقتصاد العالمى، بينما البعض الآخر يلعب دور المتلقى للصدمات، كما هو حال مصرنا العزيزة.
لم تكن الأعوام الأخيرة من أفضل فترات الاقتصاد العالمى، حيث شهد أزمة مالية فى ٢٠٠٨ زلزلت العديد من الاقتصادات الكبرى ودفعتها للدخول فى الركود. استطاعت أمريكا الخروج من تلك الأزمة عبر سياسة تحفيزية غير تقليدية، بينما قبعت أوروبا فى غياهب الركود حتى الآن. أما الصين فحرصت على دفع النمو بكل السبل الممكنة، لكن ذلك لم يكن مستداما حتى جاءت اللحظة الفارقة، وبدأت عوارض الركود الاقتصادى، فخسرت الأسهم الصينية قرابة ثلث قيمتها فى عدة أسابيع.
هذا الهبوط المفاجئ امتد ليضرب بورصات أوروبا وأمريكا والتى اجتاحها الذعر، لكن السوق الأمريكية عاودت الصعود سريعا على خلفية بيانات اقتصادية قوية، تؤكد على صلابة الاقتصاد الأمريكى. على الرغم من تحذير البعض من أزمة عالمية جديدة مثل ٢٠٠٨، لكنه من الصعب الجزم بذلك الآن. على كل حال الكثير من الشواهد، تؤكد أن الاقتصاد الصينى سيواجه أزمة عنيفة قد تطول. وعلى خلفية تلك التقلبات الاقتصادية العالمية يمكن تحديد ثلاثة محاور مختلفة للتأثير على الاقتصاد المصرى.
المحور الأول يتعلق بأزمة الاقتصاد الصينى، التى دفعت البنك المركزى الصينى لخفض سعر صرف اليوان، فى محاولة لتنشيط الاقتصاد بتشجيع الصادرات الصينية، مما يزيد من عجز الميزان التجارى بين مصر والصين، حيث تستورد مصر من الصين أضعاف ما تصدره لها، وانخفاض اليوان سيزيد من الطلب على المنتجات الصينية فى السوق المصرى. كما أن تخفيض اليوان قد دفع العديد من الدول الناشئة لتخفيض عملاتها، للحفاظ على تنافسية صادراتها، وهو ما يضغط على الجنيه المصرى، لمواكبة هذا النهج بالمزيد من التخفيض، للحفاظ على تنافسية الصادرات المصرية.
الانخفاض المتوقع فى الجنيه قد لا يؤدى لزيادة كبيرة فى التضخم هذه المرة، حيث سيقابله انخفاض فى أسعار المنتجات الصينية المستوردة، ومن ثم تكون المحصلة النهائية هى ارتفاع طفيف فى الأسعار. من ناحية أخرى، الأزمة الصينية تضع علامات استفهام كبيرة على جاذبية الاستثمار فى الأسواق الناشئة، فانخفاض عملات تلك الأسواق، سيؤدى لخسائر محققة وهروب رؤوس الأموال الأجنبية منها. وسيكون لتلك الظاهرة أثر على تأخر تدفق الاستثمارت الأجنبية على مصر، مما يضعف قدرة الاقتصاد على النمو والحفاظ على سعر صرف الجنيه.
أما المحور الثانى يتعلق بتزامن الأزمة الصينية مع تباطؤ النمو فى أوروبا، التى تعانى من الركود منذ ٢٠٠٨. ذلك التزامن سيؤثر على حجم التجارة العالمية، والتى على الأرجح ستشهد تراجعا فى السنوات القادمة، على غرار ما حدث بعد الأزمة المالية العالمية، حيث انخفضت إيرادات قناة السويس منذ ذلك الحين، ولم تعد بعد لمستوياتها السابقة. من ناحية أخرى، فإن مشروع قناة السويس الجديدة والذى تم الانتهاء منه فى سنة واحدة، هو إنجاز من الناحية الهندسية، بعد أن شكك الكثيرون فى إمكانية ذلك، وبالتأكيد سيصب فى الرصيد السياسى للنظام الحالى، ويكسبه شرعية الإنجاز.
أما على الصعيد الاقتصادى، فإن هذا المشروع الذى شمل تعميق وتوسيع المجرى الحالى وحفر مجرى موازٍ، كان من المتوقع أن يؤدى لزيادة الإيرادات فى البداية، نتيجة زيادة قدرة القناة على استقبال عدد كبير من السفن العملاقة فى نفس الوقت، وكذلك زيادة سرعة عبور القناة، مما يزيد من تنافسية القناة كمجرى ملاحى، ويساعد على زيادة رسوم المرور. وبعد الزيادة الأولى سترتبط زيادة الإيرادات ارتباطا وثيقا بنمو التجارة العالمية. لكن بعد أن ضرب الركود الصين وأوروبا فى وقت واحد، فإن زيادة إيرادات القناة قد لا تبدو منطقية الآن، حيث إنه سيكون من الصعب زيادة رسوم المرور، كما أن حجم التجارة العالمية على الأرجح سيتراجع على المدى القصير.
من الصعب بناء حكم نهائى على إيرادات القناة على المدى القصير، وقد تظل على وضعها الحالى لفترة ثم ترتفع مع انتعاش الاقتصاد العالمى. لكن أثر ذلك على شهادات الاستثمار سيكون محدودا، حيث إن إيرادات القناة بالدولار، بينما فوائد الشهادات بالجنيه. ومع تخفيض الجنيه، تزيد إيرادات القناة بالجنيه، بينما تظل قيمة الفوائد ثابتة. كما أن نصف ما تم جمعه من شهادات مخصص لحفر الأنفاق والتى لم تتم بعد، وبالتأكيد يتم استثمارها بشكل ما لتدر دخلا للقناة، يساعد على سداد فوائد الشهادات على المدى القصير، مع إمكانية إعادة تمويل الشهادات فى نهاية المدة بإصدار شهادات جديدة أو الاقتراض من البنوك.
بينما يتعلق المحور الثالث بأزمة أسعار البترول، التى انخفضت بما يزيد عن النصف خلال العام الماضى، مما أثر سلبا على دول الخليج المصدرة للبترول وتركت موازناتها فى عجز شديد. وعليه فإن الركود فى الصين وأوروبا سيؤدى لانخفاض الطلب المستقبلى على البترول، مما يؤثر سلبا على قدرة أسعار البترول على التعافى، والتى من المتوقع أن تقارب ٥٠ــ٦٠ دولارا للبرميل فى ٢٠١٥ــ٢٠١٦. ذلك الانخفاض يساهم فى خفض فاتورة دعم الطاقة، وبالتالى عجز الموازنة المصرية وهو أمر جيد، لكن على الناحية الأخرى، يضعف من قدرة دول الخليج على الاستثمار فى مصر، مما يؤثر على معدلات النمو المتوقعة وسعر صرف الجنيه.
قد يتساءل القارئ: «ما هذا الكم من الأزمات؟» الواقع أن الاقتصاد العالمى أصبح شديد التقلب، مما يضفى بظلاله على الاقتصاد المصرى الذى سيواجه تحديات بالغة فى الفترة القادمة لم تكن فى الحسبان. لكن من ناحية أخرى، هناك أخبار إيجابية لم تكن فى الحسبان أيضا، كاكتشاف حقل غاز كبير فى البحر المتوسط، الذى سيساعد على سد حاجة مصر من الغاز الطبيعى، وإن كان ذلك سيتطلب بعض الوقت لبداية الإنتاج. وأخيرا ليست كل الأخبار سلبية وحتى الأخبار السلبية قد تكون سيئة للاقتصاد الكلى، لكنها فرصة جيدة للحكومة، لمراجعة توقعاتها وبناء تصور أكثر واقعية عن آفاق الاقتصاد على المدى القصير.
عمر الشنيطى
05 - سبتمبر - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"