نفتخر دائما كمصريين بتاريخنا
العريق، وفى الحقيقة يحق لنا أن نفخر بذلك التاريخ الحافل والذى يمتد لقرابة ٧٠٠٠
سنة حيث كانت مصر مهدا للحضارة. لكننا لا نفتخر فقط بالماضى السحيق والحضارة
الفرعونية، فالأجداد أيضا مازالوا يتباهون بالوضع الذى كانت عليه مصر منذ خمسين
عام سواء من حيث نظافة الشوارع أو توافر السلع والخدمات أو أخلاق الناس مقارنة
بالوضع الحالى لمصرنا العزيزة، آملين أن تعود عقارب الساعة للوراء حتى نعيش فترة
مماثلة.
وبينما
نحلم بالرجوع للماضى، تمضى دول أخرى فى مسيرتها لتتحول من دول فقيرة بائسة إلى دول
متقدمة تكنولوجيا وشعبها متعلم وميسور الحال. وتعتبر سنغافورة مثالا حيا على ذلك،
إذ احتفلت الشهر الماضى بمرور خمسين سنة على تأسيسها حيث شهدت البلاد فى تلك
الفترة تحولا كبيرا من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة ٥٠٠ دولار لبلد
متقدم أغلب شعبه متعلم ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن ٧٠ ألف دولار. فعندما يزيد دخل
الفرد ١٤٠ ضعفا فى غضون ٥٠ سنة فهذا إنجاز كبير يستحق الدراسة عن كثب لاكتساب الخبرات.
ويمكن فى هذا الصدد استخلاص سبعة دروس مستفادة.
الأول: التاريخ لا يخبرنا الكثير عن مستقبل الدول: مصر
لديها تاريخ عريق لكن وضعها الاقتصادى ليس جيدا حيث تقبع فى حالة اقتصادية متردية
منذ يناير ٢٠١١ حتى أصبح قرابة ربع سكانها يعيشون تحت خط الفقر. أين ذهب التاريخ؟
للأسف لم يشفع لأصحابه، بينما سنغافورة صاحبة الخمسة عقود استطاعت أن تبنى اقتصادا
قويا وأن تحقق تنمية مستدامة جعلت مواطنيها من الأكثر رفاهية على مستوى العالم مما
يثبت أن مقولة «من ليس له تاريخ ليس له مستقبل» ليست صحيحة بالضرورة ولذلك علينا
التركيز على مستقبلنا.
الثانى: الحجم ليس معيارا هاما لتقدم الدول: تجربة
سنغافورة أثبتت أن الحجم ليس عاملا هاما فى نهضة الدول حيث أن تلك الدولة الحديثة
يبلغ مساحتها قرابة ٧٠٠ كيلو متر مربع وخُمس تلك المساحة لم تكن موجودة عند تأسيس
الدولة بل تم ردم المياه لتوسيع البلد، كما أن عدد سكان البلد يبلغ ٥٫٥ مليون نسمة
فقط. تلك الأرقام تعتبر هزيلة إذا ما قورنت بمصرنا العزيزة والتى تبلغ مساحتها
مليون كيلو متر مربع لكن أغلبها غير مستغلة حيث يعيش أغلب شعبها الذى يبلغ تعداده
قرابة ٩٠ مليون نسمة على أقل من عُشر تلك المساحة. لذا من المهم أن نعى أن الحجم
الكبير لا يفيد كثيرا طالما لا يحسن استخدامه للارتقاء بحياة الناس.
الثالث: التجانس الاجتماعى يمكن الوصول له حتى مع اختلاف
الأعراق: بلد حديث كسنغافورة ورث توليفة عرقية ليست بالسهلة يطغى عليها العرق
الصينى الذى يمثل ثلاثة أرباع السكان متعايشين مع أعراق أخرى كالهنود والماليزيين
استطاعوا جميعا التعايش معا رغم اختلافاتهم العرقية والدينية وذلك لأن الدولة سعت
لإيجاد هوية واحدة استطاعت تجميع الكل وكذلك استطاعت الحفاظ على التوزيع النسبى
لتلك الأعراق منذ التأسيس. وذلك التجانس الاجتماعى يعطى درسا هاما لمصر وباقى دول
المنطقة على أهمية احتواء التيارات والأعراق المختلفة وتوحيدهم تحت هوية واحدة
تربط الجميع.
الرابع: غياب الموارد الطبيعية لا يعوق التنمية والتقدم:
سنغافورة فقيرة فى الموارد الطبيعة من بترول وغيره لكن ذلك لم يعقها عن التنمية
حيث استطاعت أن تضع نفسها على الخريطة كمركز مالى ولوجيستى عالمى واستطاعت التركيز
على الصناعات التكنولوجية مما أدى لزيادة إنتاجية ودخل الفرد بشكل كبير. ولذلك يحق
لنا فى مصر أن نسعد باكتشافات الغاز الأخيرة لكن لا يجب أن تؤدى تلك الاكتشافات
لتأجيل الإصلاحات الاقتصادية والعمل على بناء نظام اقتصادى يحدث تنمية مستدامة.
الخامس: الإنفاق العسكرى المرتفع لا يتعارض مع التنمية:
على عكس المتوقع، فإن تلك الدولة الصغيرة تعتبر من أكثر دول العالم من حيث الإنفاق
العسكرى مقارنة بحجم اقتصادها. لكن الإنفاق العسكرى الكبير نسبيا لم يعق سنغافورة
عن تحقيق تنمية مستدامة بالاستثمار فى قطاع التعليم وتنمية الصناعات التكنولوجية.
وهذا أيضا درس محورى لمصرنا العزيزة التى توسعت أخيرا فى تسليح الجيش لرفع قدراته
القتالية تواكبا مع التحديات المحلية والإقليمية ومن المهم أن يكون هناك توازن بين
الإنفاق العسكرى والاستثمار فى التنمية المستدامة.
السادس: الاضطرابات السياسية الإقليمية لا تتعارض مع
التنمية: سنغافورة ليست منعزلة عن مشاكل إقليمها حيث ولدت من رحم مشكلة إقليمية
أخرجتها من تحالف مع ماليزيا على خلفية تهديدات من إندونيسيا. المتابع للوضع
الإقليمى الحرج الذى تأسست فى ظله سنغافورة منذ خمسين سنة لا يمكن أن يتوقع هذا
النمو المذهل، لكن سنغافورة استطاعت أن توازن بين إدارة أجندتها الإقليمية والنهوض
باقتصادها المحلى وهو ما يجب على مصر أن تنتبه له؛ حيث إن وضع منطقتنا المتقلب على
الأرجح لن يستقر على المدى القصير بينما النهوض بالاقتصاد المصرى لا يحتمل التأخير.
السابع: سوء الوضع الاقتصادى لا يمنع تحقيق إنجاز فى
فترة وجيزة: بدأت سنغافورة من وضع اقتصادى حرج وبدون موارد طبيعية فى ظل تحديات
اجتماعية وسياسية كبيرة لكن ذلك لم يمنعها من أن تكون قصة نجاح كبيرة خلال بضعة
عقود وتلك فترة قصيرة فى حياة الدول. قد تشعرنا تلك القصة بالاكتئاب على ما أضعناه
فى الخمسين سنة الماضية لكن فى نفس الوقت تبعث برسالة إيجابية على إمكانية تكرار
ذلك النجاح فى مصر فى فترة قصيرة قد تتطلب من باب الواقعية عقدا أو عقدين، وليس
مجرد عدة سنوات.
آن الأوان لنا كمصريين أن نركز على وضعنا الحالى وأن
نعمل على تحسين المستقبل بدلا من التباهى بتاريخنا العريق الذى لا ينكره أحد.
فالوضع الاقتصادى حرج ولا يستطيع أحد أن ينكره حيث يشكو المواطنون من عدم إحساسهم
بتحسن حقيقى على الأرض مما يجعل من الضرورى التركيز على تحسين الوضع الاقتصادى
بالتعلم من التجارب الاقتصادية الناجحة كسنغافورة التى استطاعت أن تنجز الكثير فى
فترة وجيزة على الرغم من صعوبة وضعها السياسى والاقتصادى والاجتماعى وقت تأسيسها.
عمر الشنيطى
27 - سبتمبر - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment