Saturday, October 3, 2015

اليونان ومصر.. اختلافات ومخاوف

قد تكون أزمة اليونان الحدث الأهم اقتصاديا خلال ٢٠١٥، حيث كشفت عن هشاشة الاقتصاد اليونانى، الذى أصبح مكبلا بالديون. فقد أدى التقشف الذى كان على اليونان انتهاجه لإرضاء الدائنين لدخول الاقتصاد فى ركود عميق. وفى الوقت الذى كان على اليونان إعادة جدولة ديونها المتصاعدة، تم انتخاب حكومة يسارية تعارض التقشف الصارم، وهو ما زاد من الصدام مع الدائنين، ودفع رئيس الوزراء لإجراء استفتاء على خطة الدائنين، الذى انتهى برفض خطة التقشف وتعزيز موقف رئيس الوزراء.
بدى هذا الاستفتاء كمحطة تاريخية لليسار فى التصدى للرأسمالية، وتعالت المطالب بإعفاء اليونان من بعض الديون. لكن ما حدث كان مغايرا، حيث اضطر رئيس الوزراء المنتخب والمدعوم بنتيجة الاستفتاء، للرضوخ لمطالب الدائنين، باتخاذ إجراءات تقشفية، مما دفع بعض أعضاء حكومته للاستقالة. فهل باع الرجل القضية؟ النظرة الواقعية، تكشف أنه كان من الصعب وجود سبيل آخر غير الوصول لاتفاق مع الدائنين والذى كان لا بد أن ينطوى على بعض الإجراءات التقشفية.
وقد تلى ذلك انتخابات جديدة فاز فيها الرجل مرة أخرى، لكنه شكل حكومة أقل تشددا من وجهة نظر الدائنين. ويوجه هذا الموقف رسالة مهمة، أن الدول لا تستطيع تغيير توجهها بين عشية وضحاها، خاصة حينما تتراكم عليها الديون وتتفاقم مشاكلها الاقتصادية.
***
تأمل الحكومة اليونانية الجديدة فى الخروج من الركود بحلول ٢٠١٩، وهو ما يراه البعض صعبا فى ظل الإجراءات التقشفية. وبينما تتجه أنظار العالم لليونان، فإن البعض يتساءل إذا كان توسع الحكومة المصرية فى الاقتراض فى السنوات الأخيرة، قد يتسبب فى وقوع البلاد فى أزمة مماثلة. لكن الوضع فى حالة مصر يختلف عن اليونان، فإجمالى الدين العام فى اليونان، وصل لقرابة ١٧٥٪ من الناتج المحلى، بينما إجمالى الدين العام فى مصر يقف عند قرابة ٩٠٪ من الناتج المحلى، وهو مستوى مرتفع بعض الشىء لكن لم يخرج بعد عن نطاق السيطرة. لكن هذا لا يعنى أن الوضع جيد، حيث إن فوائد خدمة الدين ارتفعت لتمثل ٢٨٪ من إجمالى مصروفات الحكومة فى موازنة العام الحالى. وتمثل تكلفة الفوائد قرابة ٦٠٪ من إيرادات الموازنة، بينما تخطت تكلفة الفوائد إجمالى الإيرادات الضريبية، هذا فقط عن تكلفة الفوائد بعيدا عن رد أصل القيمة. ولذلك على الحكومة أن تعيد تمويل تلك الديون حين يحل أجلها بالاقتراض مجددا من البنوك والمؤسسات المالية المحلية.
العبء التمويلى فى مصر كبير، لكن هناك فارقا جوهريا آخر بين مصر واليونان. غالبية الديون اليونانية ديون خارجية، بينما ما يزيد عن ٩٠٪ من الديون المصرية ديون محلية. الديون الخارجية عادة ما تكون باليورو أو الدولار، ولا يستطيع البنك المركزى اليونانى طباعة اليورو لسداد ديونه، بل على الاقتصاد أن يكتسبه من خلال التصدير والسياحة والاقتراض الخارجى مرة أخرى. أما فى حالة الديون المصرية، فإن البنك المركزى المصرى لديه القدرة على طباعة الجنيه، حينما يشاء لسداد ديونه المحلية. لا يعطى البنك المركزى ذلك النقد للحكومة مباشرة، بل يقوم باستخدامه لشراء السندات الحكومية، أى أنه يقوم بإقراض الحكومة لسداد عجز الموازنة وإعادة تمويل ما يُستحق من سندات إذا دعت الحاجة.
وقد ضاعف البنك المركزى، استثماره فى السندات الحكومية خلال العام الأخير، مما يؤدى لخفض قيمة الديون الحكومية بالتدريج، حيث إن طباعة النقد تخفض من قيمة العملة، وبالتالى تخفض من القيمة الحقيقية للديون المستحقة. قد يتصور البعض أن طباعة النقد اختراع مصرى، لكنه من كلاسيكيات الاقتصاد. فمنذ قرون حينما كان يريد ملك فى أوروبا الخروج للحرب ولم يكن لديه مال كافٍ، كان يلجأ للاستدانة من التجار مع وعد بالتسديد من غنائم الحرب. لكن فى حالة الخسارة تتراكم الديون ويصبح الملك فى مأزق، فيقوم بإعادة صك العملات المتداولة فى السوق، لتحتوى على نسبة ذهب أقل. فإذا كان الذهب المتداول يمثل ١٠٠ عملة قبل الصك، فإنه قد يصل إلى ١٢٠ عملة بعدها، ويقوم الملك بالاستحواذ على الزيادة لسداد الديون.
طباعة النقد أو ما يعرف بتسييل الديون يساعد على تخفيض عبء الديون بمرور الوقت، لكن من ناحية أخرى يؤدى لزيادة المعروض من النقود وبالتالى ارتفاع الأسعار. قد يتطلب الأمر بعض الوقت للانعكاس على مستويات الأسعار، لكنه بلا شك حتمى وأثره مستدام على الأسعار على خلاف ارتفاعات الأسعار الموسمية فى بعض المنتجات، والتى سرعان ما تعاود الهبوط بعد انتهاء الموسم. ولعل ذلك هو ما يثنى الحكومات عن اللجوء لذلك الحل السحرى على المدى القصير، المرير على المدى البعيد والمتوسط، وهو ما علينا فى مصر أن نتجرع مرارته فى المستقبل.
من ناحية أخرى، قد تمثل الديون الخارجية حاليا نسبة محدودة من إجمالى الدين العام، لكن هذا الوضع فى طريقه للتغيير. فالتصريحات الرسمية، تشير إلى فجوة تمويلية تبلغ ٣٦ مليار دولار فى السنوات المقبلة، إذ يعانى الميزان التجارى من عجز شديد. وعلى الرغم من زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة لقرابة ٦ مليارات دولار فى العام الماضى وهو تحسن ملحوظ، لكنه أقل من المستهدف البالغ ٨ - ١٠ مليارات دولار، كما أن القطاع السياحى شهد تحسنا لكن أقل من المتوقع، مما يزيد من الضغط على الجنيه فى وقت تراجعت فيه المساعدات الخليجية، مما يدفع الحكومة للاقتراض الخارجى، وهو ما حدث بالفعل بطرح الحكومة سندات باليورو، أخيرا مع خطة للتوسع فى ذلك فى الفترة القادمة.
وإذا أخذنا فى الاعتبار الاقتراض الخارجى لتمويل صفقة توليد الكهرباء الكبيرة، وكذلك التوسع فى تسليح الجيش بشراء طائرات وحاملات طائرات من أوروبا، فإن الدين الخارجى بلا شك مرشح لارتفاع كبير على المدى البعيد وربما المتوسط. قد يكون الاقتصاد المصرى فى مأمن من فخ ديون خارجية على المدى القصير، لكن عليه أن يتعامل مع الآثار الجانبية المستدامة للتوسع فى طباعة النقد لتسييل الديون المحلية، وكذلك الحظر من الوقوع فى فخ ديون خارجية مثل اليونان على المدى المتوسط، نتيجة الفجوة التمويلية الكبيرة وكذلك الخطط الاقتصادية والعسكرية الطموحة.
عمر الشنيطى
3 - أكتوبر- 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

No comments:

Post a Comment