Saturday, April 19, 2014

القطاع الخاص والقشة التى قصمت ظهر البعير

يتحمل القطاع الخاص فى النظم الرأسمالية مسئولية تحريك عجلة الاقتصاد بينما ينحصر دور الحكومة على توجيه النشاط الاقتصادى والرقابة عليه. ويشمل القطاع الخاص الشركات والمجموعات الاستثمارية العملاقة، كما يشمل الشركات المتوسطة والصغيرة بالإضافة إلى المستثمرين الأفراد.
وبشكل عام، كان القطاع الخاص على اختلاف مستوياته فى حالة من التناغم مع النظام قبل اندلاع ثورة ٢٥ يناير، حيث كان الوضع يتسم بالوضوح فيما يخص الأوزان النسبية للاعبين المختلفين، وما هو متاح لكل لاعب وما يستتبعه من أثر على ثروات القطاع الخاص.

جاءت ثورة ٢٥ يناير كصاعقة ليس فقط للنظام ولكن للقطاع الخاص أيضا. فالعديد، إن لم يكن أغلب، المجموعات الاستثمارية كانت على صلة وثيقة بالنظام الأسبق ولذلك بادر رموزها بالخروج من البلاد مخافة المسائلة القانونية ولم تتوقف الشائعات، التى يصعب إثبات صحتها، عن الثروات الطائلة التى تم تهريبها خارج البلد عقب اندلاع الثورة. على صعيد آخر، واجهت الشركات المتوسطة والصغيرة وضعا معقدا دفع بعضهم للدخول فى بيات شتوى حتى تتضح الصورة. ولم يختلف الحال كثيرا بالنسبة للمستثمرين الأفراد الذين فضلوا التراجع للحفاظ على ثرواتهم حتى تستقر الأوضاع. وقد أدى هذا التراجع إلى انخفاض معدلات النمو من مستوى ٥-٦٪ قبل الثورة إلى حوالى ٢٪ بالإضافة إلى زيادة تحويل المدخرات من الجنيه إلى الدولار. لذلك لم يساهم القطاع الخاص حقيقة فى دفع النمو فى هذه المرحلة.

مع وصول أول رئيس مدنى منتخب لسدة الحكم، كان الأمل كبيرا فى إرساء نظاما ديمقراطيا تصاحبه سوقا مفتوحة. لكن المجموعات العملاقة كانت لا تزال فى مرحلة استكشاف الواقع الجديد وبناء تحالفات مع النظام الجديد، بينما كانت الشركات المتوسطة والصغيرة على استعداد للحركة لكنها لا تستطيع أخذ زمام المبادرة. ومن ناحية أخرى كان المستثمرون الأفراد فى حالة من النشوة وهم يحلمون بالنهضة المرتقبة وهو ما عكسه صعود البورصة الكبير فى بداية حكم الرئيس السابق. لكن سرعان ما تبدلت الأوضاع وطغت الخلافات السياسية وسوء إدارتها على المشهد وبات واضحا أن الكثير من الوعود الانتخابية لا تعدو كونها أحلاما فعاد القطاع الخاص على اختلاف مستوياته للبيات الشتوى، ولذلك لم يساهم حقيقة فى دفع النمو فى هذه المرحلة أيضا.

ومع هذا التوتر، أنتظر القطاع الخاص التغيير الذى لم يتأخر كثيرا فجاء عزل الرئيس السابق فى ٣ يوليو ومعه خارطة طريق جديدة تعد بوضع اقتصادى أفضل وشرعت الحكومة الجديدة بتبنى سياسة اقتصادية توسعية ممولة من المساعدات الخليجية لتحفيز القطاع الخاص. لكن المجموعات العملاقة، والتى رحبت بالتغيير، لم تتحرك سريعا انتظارا منها لاتضاح الرؤية، وكذلك تأثرا بمزاحمة الحكومة والمؤسسة العسكرية للقطاع الخاص. وكما هو معتاد تظل الشركات المتوسطة والصغيرة فى انتظار من يأخد زمام المبادرة. أما المستثمرون الأفراد، فإن الأمل لديهم كبير لكن محفوف بالخوف من توقف المساعدات الخليجية وتدهور الجنيه. انعكس ذلك الوضع الضبابى على معدلات النمو، التى ظلت عند مستوى ٢٪ على الرغم من مليارات الدولارات التى تم ضخها فى الاقتصاد فى الأشهر الماضية.

وعلى الرغم من جهد الحكومات المتعاقبة وخاصة الأخيرة على تحفيز القطاع الخاص وتحريك الاقتصاد فإنها قد فشلت فى إزالة سبب القلق الأساسى وهو ضبابية الوضع السياسى وأثره المجتمعى والاقتصادى السيئ. لكن هذه المرحلة تبدو مختلفة عن المراحل الأخرى والتوجه المتحفظ للقطاع الخاص فى هذه المرحلة قد يكون نقطة فارقة فى دور القطاع الخاص والمساحة المتاحة له مستقبلا. فالنظام الجديد الذى سيكتمل بانتخاب الرئيس الجديد لا بد وأنه سيفكر فى ما قدمه القطاع الخاص للبلد فى المرحلة السابقة شديدة الحرج، ولن يكون مستغربا أن يصل هذا النظام لنتيجة أن القطاع الخاص لم يقدم كثيرا للبلد فى هذه الظروف الاستثنائية بل ظل يفكر فى مصلحته أولا.

سيزيد من حدة تلك الصورة الذهنية السياسة التحفيزية الكبيرة التى تبنتها الحكومة بعد ٣٠ يونيو ثم ما لبث النظام أن أفاق على صدمة هبوط البورصة بشكل غير متوقع بعد إعلان ترشح وزير الدفاع، والذى كان له أثر سيئ اضطر العديد من خبراء البورصة لاختلاق نظريات اقتصادية لتفسير ذلك بشكل دبلوماسى. ومما لا شك فيه أن هذا الحدث سيرسخ فى ذهن النظام الجديد عدم وطنية القطاع الخاص. واللطيف فى الأمر أن هذا النظام الجديد لديه بديل جاهز يستطيع دفع عجلة الاقتصاد بشكل سريع، وهذا البديل هو الجهاز الاقتصادى بالمؤسسة العسكرية والذى من المتوقع أن يلعب دورا أكبر فى الفترة المقبلة على حساب القطاع الخاص الذى سيتم، إن لم يكن تم بالفعل، وصمه بغير الوطنية.

الخلاصة أن الوضع السياسى المضطرب قد دفع القطاع الخاص للدخول فى حالة بيات شتوى منذ ثورة ٢٥ يناير مما أدى إلى عدم مساهمة القطاع الخاص بشكل حقيقى فى دفع النمو فى تلك الفترة العصيبة. وعلى الرغم من السياسية التحفيزية الكبيرة التى تبنتها الحكومة بعد ٣٠ يونيو فإن القطاع الخاص لم يتحرك كما كان متوقعا وأنتهى الأمر بهبوط البورصة بشكل غير متوقع عقب إعلان وزير الدفاع السابق ترشحه فيما يمكن اعتباره القشة التى قصمت ظهر البعير ووصمت القطاع الخاص بأنه غير وطنى وغير مستعد لتنحية مصلحته من أجل مصلحة البلد. وهذه الرؤية ستؤدى فى الأغلب إلى إضعاف دور القطاع الخاص فى الفترة المقلبلة على حساب دور أكبر للجهاز الاقتصادى للمؤسسة العسكرية. لكن يبقى السؤال: هل كان متوقعا من القطاع الخاص ألا يفكر فى مصلحته.. وهل ذلك التفكير ضد الوطنية؟


عمر الشنيطى
19 - أبريل - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, April 5, 2014

هل ستتم خصخصة الأصول العقارية العامة؟

إن تعريف مصطلح الخصخصة ــ الذى يعتبر شديد الجدل فى مجتمعنا ــ هو تحويل بعض المؤسسات العامة التى تعمل على تقديم خدمات اقتصادية واجتماعية لا ترتبط بالسياسة العليا للدولة من القطاع العام إلى القطاع الخاص. ويذكر أن أول تجربة للخصخصة كانت فى مدينة نيويورك فى القرن السابع عشر لكن الخصخصة لم تظهرعالميا بقوة إلا فى سبعينيات القرن الماضى. ولعل ما دفع بعض حكومات الدول الغربية إلى تبنى هذا النهج هو الرغبة فى خلق منافسة حقيقية فى السوق وتحسين الخدمات العامة المقدمة وخفض تكلفتها وفى نفس الوقت إعفاء الحكومة من تحمل مسئولية إدارة وخسائر هذه المؤسسات وكذلك توفير دخل سريع من بيع الأصول.

تبنت أمريكا توجها منفتحا لخصخصة العديد من الخدمات العامة قد تصل لخصخصة إدارة السجون وهو ما أدى إلى خلق منافسة حقيقية فى مجال تقديم الخدمات العامة ورفع جودتها وخفض تكلفتها. أما التجربة البريطانية فقد كانت أكثر اتساعا حيث شهد حكم مارجريت تاتشر موجة عارمة من الخصخصة شملت المطارات والمنازل والخدمات العامة فتم بيع ما يعادل ٤٠ مليار دولار من المنشآت الحكومية وتم إشراك المستثمرين الأفراد فى ذلك فزاد عدد مالكى الأسهم من ٢ مليون إلى ١٢ مليون فرد. ويرى البعض أنها كانت تجربة ناجحة أعادت بريطانيا للمنافسة العالمية، بينما يراها البعض كارثة سياسية وإجتماعية. وتأتى التجربة الروسية مخبية للآمال بسبب سوء الطرح والإدارة وعدم توفير المناخ الجيد لنقل آلاف المؤسسات للقطاع الخاص.

بدأ الكلام فى مصر عن الخصخصة فى منتصف السبعينيات لكنها كانت بطيئة حتى صدور قانون شركات قطاع الأعمال العام فى ١٩٩١. كان من المفترض أن تشمل الخصخصة المؤسسات الخاسرة فقط لكنها امتدت لما دون ذلك فتم بيع ٤٠٧ شركة فى الفترة بين ١٩٩١ وحتى ٢٠٠٩. ويرى البعض أن هذه الموجة من الخصخصة لم تكن عادلة حيث تم بيع العديد من الشركات بقيمة أقل من قيمة الأصول الثابتة المملوكة لها، كما أن هذه الموجة كان لها أثرا إجتماعيا سلبيا بسبب تسريح العمال من الشركات المباعة فى كثير من الأحوال.

لكن هناك موجة عالمية جديدة فى الخصخصة تتمحور حول بيع الأصول العقارية العامة من أراضى ومبانى حكومية غير مستغلة للقطاع الخاص. فالحكومة فى أغلب الدول تعتبر أكبر مالك عقارى وقد يكون بعض هذه الأصول لا يحسن استخدامها أو غير مستغلة على الإطلاق. ويقدر تقرير نشرته مجلة الإيكونومست فى ١١ يناير ٢٠١٤ أن الحكومة الفيدرالية فى الولايات المتحدة تمتلك قرابة مليون مبنى عقارى لا يتم إستغلال حوالى ٥٪ من هذه المبانى. ويشير التقرير أن هذه الظاهرة تمتد للعديد من دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية حيث يقدر التقرير وجود أصول حكومية عقارية فيها بما يعادل ٩ تريليون دولار، أى ما يقارب خمس الناتج المحلى لهذه الدول.

وسيؤدى بيع الجزء غير المستغل من الأصول العقارية العامة أو تأجيرها لإيجاد مصدر سريع للدخل وتوفير نفقات الإدارة والصيانة على الحكومات. وتتميز هذه الموجة الجديدة من الخصخصة بسهولة تقييم المنشآت المباعة بناء على القيمة السوقية للعقارات. كما أن بيع الأصول العقارية لا تشوبه مشاكل إجتماعية بسبب عدم وجود عمال أو موظفين مرتبطين بهذه الأصول. بالإضافة لذلك يوفر بيع الأصول العقارية موارد مالية سريعة ستساهم بلا شك فى تمويل عجز الموازنة المتصاعد فى العديد من دول العالم.

بالنظر إلى مصر، نجد أن عجز الموازنة وصل إلى ١٣٫٨٪ من الناتج المحلى فى العام الماضى، بينما تعمل الحكومة فى العام الحالى على إحتواء عجز الموازنة فى محيط ١٠٪ من الناتج المحلى اعتمادا على المساعدة الخليجية. لكن القطاع الخاص لا يظهر مؤشرات كبيرة للتعافى ولذلك فإن حصيلة الضرائب لا يتوقع أن ترتفع، بينما تظل المصروفات الحكومية الأساسية من رواتب ودعم وخدمة دين فى ازدياد. ولذلك فإن عجز الموازنة من المتوقع أن يزداد فى السنوات القادمة. لكن على الناحية الأخرى، فإن خزائن الخليج المفتوحة لها نهاية والاقتراض المحلى له نهاية وكذلك خلق النقود عن طريق التيسير الكمى له نهاية، بينما عجز الموازنة لا نهاية له بدون إجراءات اقتصادية حاسمة لا يبدو أن هناك من يريد تبنيها.

ولذلك تحتاج الحكومة لحلول غير تقليدية تستطيع من خلالها توفير موارد مالية سريعة وبدون تكلفة سياسية وإجتماعية باهظة وهو ما يجعل فكرة خصخصة الأصول العقارية العامة بمثابة الحل السحرى لذلك خاصة مع إمتلاك الحكومة والمؤسسة العسكرية لكمية كبيرة من الأصول العقارية يمكن بيعها بشكل مباشر أو تأجيرها أو استخدامها للمشاركة مع القطاع الخاص فى مشروعات متنوعة. وبالتالى من المتوقع أن يكون ذلك النوع من الخصخصة فكرة براقة للحكومات القادمة لكن سيظل الأهم هو كيفية إدارة هذه العملية.

الخلاصة أن ظاهرة الخصخصة بدأت عالميا فى السبعينيات بنقل ملكية بعض المؤسسات العامة للقطاع الخاص وانتشرت فى مصر منذ التسعينيات بداعى تحسين الخدمات العامة المقدمة وتقليل تكلفتها وكذلك رفع العبء الإدارى والمالى عن كاهل الحكومات لكنها دائما ما تأتى على حساب التكلفة الإجتماعية. لكن ظهر مؤخرا موجة عالمية جديدة من الخصخصة تتمحور حول بيع الأصول العقارية العامة غير المستغلة للقطاع الخاص وهو ما قد يوفر تمويلًا سريعًا بدون حرج فى تقييم سعر البيع وبدون تكلفة إجتماعية كبيرة مما قد يجعل خصخصة الأصول العقارية أحد الحلول الجيدة التى قد تتبناها الحكومات القادمة فى مصر فى ضوء تصاعد عجز الموازنة ومحدودية مصادر التمويل، لكن سيظل من الضرورى إيجاد آلية فعالة وشفافة لذلك.


عمر الشنيطى
5 - أبريل - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"