Saturday, July 26, 2014

التقشف المالى زائد الانكماش النقدى يساوى ركود طويل الأجل

تم إقرار مشروع موازنة العام المالى الجديد (٢٠١٤/٢٠١٥) بزيادة إجمالى الإنفاق قرابة ٧٪ مقارنة بالعام الماضى. لكن هذه الزيادة الإسمية فى الإنفاق أقل من معدلات التضخم التى من المتوقع أن تصل إلى ١٤٪ فى العام المالى الجديد بسبب رفع أسعار الطاقة، مما يجعل الإنفاق الحقيقى فى الموازنة الجديدة أقل من العام الماضى ويجعل الموازنة الجديدة تقشفية فى المقام الأخير.

ولعل من أبرز ملامح الموازنة الجديدة خفض دعم السلع البترولية من حوالى ١٣٠ إلى ١٠٠ مليار جنيه مما أدى إلى رفع أسعارها وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار العديد من السلع والخدمات من غذاء لمواصلات لمواد بناء وغيرها، بمعدلات أعلى من نسبة ارتفاع أسعار الطاقة تحسبا للارتفاعات القادمة.
كما شهدت الموازنة الجديدة خفضا للاستثمارت الحكومية من ٧٨ إلى ٦٧ مليار جنيه وهو ما يضعف قدرة الحكومة على تحفيز الاقتصاد. وتهدف الحكومة إلى خفض عجز الموازنة ليصل إلى ٢٤٠ مليار جنيه (١٠٪ من الناتج المحلى) للسيطرة على عجز الموازنة والدين العام. وإذا نظرنا لهذا التقشف المالى نجد أن آثاره الكلية تفضى بنا إلى حالة من الركود التضخمى نتيجة انخفاض الإنفاق الحقيقى والاستثمارات الحكومية من ناحية وارتفاع أسعار السلع والخدمات من ناحية أخرى. ويعتبر الركود التضخمى فخا كبيرا لأى اقتصاد حيث إن الإجراءات التحفيزية اللازمة للخروج من الركود عادة ما تزيد من حدة التضخم، بينما الإجراءات الانكماشية اللازمة لكبح جماح التضخم عادة ما تزيد من عمق الركود.

فى ظل هذا الوضع الحرج، يأتى دور البنك المركزى والذى كان عليه أن يختار بين محاربة الركود أو التضخم وهو ما حسمه البنك المركزى الأسبوع الماضى بانتهاج سياسة نقدية انكمشاية حينما رفع سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة بواقع ١٪ ليصلا إلى ٩٫٢٥٪ و١٠٫٢٥٪ على التوالى. وهذه السياسة الانكماشية يمكن فهمها فى إطار محاولة البنك المركزى للسيطرة على التضخم الناتج عن رفع أسعار الطاقة وما يستتبعه من ارتفاع أسعار السلع والخدمات المختلفة بشكل كبير قد يصل إلى درجة الهيستريا فى حالة تكلفة المواصلات التى ربما زادت بما يعادل ٥٠-١٠٠٪ طبقا لتقارير غير رسمية.
بجانب محاربة التضخم، يؤدى رفع سعر الفائدة لدى البنك المركزى إلى رفع سعر الفائدة على ودائع البنوك مما يؤدى إلى إقبال الأفراد والمؤسسات على زيادة ودائعهم فى البنوك بالجنيه المصرى بعد أن أصبح الفارق بين العائد على ودائع الجنيه والدولار كبيرا بما يكفى ليعوض المودعين عن الانخفاض المتوقع فى قيمة الجنيه أمام الدولار. ومما لا شك فيه أن ذلك سيؤدى إلى زيادة الودائع لدى البنوك مما يساعدها على زيادة إقراضها للحكومة لتمويل عجز الموازنة من ناحية وكذلك إقبال الأفراد والمؤسسات على الحفاظ على مدخراتهم بالجنيه المصرى لارتفاع العائد على الجنيه وبالتالى تخفيف الضغط على الجنيه أمام الدولار نسبيا.

لكن قد تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن. فهذه السياسة النقدية الانكمشاية ستؤدى إلى رفع أسعار إقراض البنوك للأفراد والشركات مما يؤدى إلى تراجع الإقبال على الاقتراض من البنوك وانخفاض استثمارات القطاع الخاص وهو ما سيؤدى إلى تراجع معدلات النمو وتعميق الركود وبالتالى انخفاض أرباح الشركات ودخل الأفراد وما يستتبعه من انخفاض الحصيلة الضريبية عن المتوقع. وعلى صعيد آخر، فإن ارتفاع سعر الفائدة لدى البنك المركزى سيؤدى إلى ارتفاع سعر الفائدة على الدين الحكومى. وفى ظل دين حكومى يبلغ قرابة ٢ تريليون جنيه، فإن ١٪ زيادة فى سعر الفائدة سيؤدى إلى ارتفاع تكلفة خدمة الدين بحوالى ٢٠ مليار جنيه سنويا، قد لا يظهر أثرها كاملا هذا العام بسبب الديون متوسطة وطويلة الأجل والتى لن يتم إعادة تمويلها هذا العام. ولذلك فلا جدال أن السياسة النقدية الانكماشية ستؤدى إلى خفض معدلات الاستثمار والنمو وبالتالى الحصيلة الضريبية من ناحية وارتفاع أسعار الفائدة وتكلفة خدمة الدين من ناحية أخرى مما سيؤدى بطبيعة الحال إلى خروج عجز الموازنة عن السيطرة.

ويتضح مما سبق أن الركود التضخمى الناتج عن التقشف المالى الصارم من قبل الحكومة ستقوم السياسة النقدية من قبل البنك المركزى بتخفيف شق التضخم به، بينما ستقوم بتعميق شق الركود به فى المقابل. ومع موجات التقشف المالى المتوقعة مستقبلا، فإن الركود طويل الأجل سيكون نتيجة لا مفر منها. ومن الجدير بالذكر أنه فى ظل هذا الوضع المركب، جزءا ليس بالقليل مما سيتم توفيره من رفع الدعم سيقابله ارتفاع فى تكلفة خدمة الدين فى إشارة واضحة لتحويل جزء من الإنفاق الحكومى من الفقراء الأكثر تأثرا بخفض الدعم للأغنياء الأكثر استفادة من ارتفاع سعر فائدة ودائع البنوك.
الخلاصة أن النتيجة النهائية للجمع بين السياسة المالية التقشفية والسياسة النقدية الانكماشية هو الركود طويل الأجل وما يصاحبه من معدلات نمو منخفضة ومعدلات بطالة مرتفعة وتحويل جزء من الإنفاق الحكومى من الفقراء للأغنياء. وفى خضم هذا المأزق يحق لنا أن نتساءل «ألم يكن أفضل تبنى تقشف مالى متوازن وتدريجى بدلا من التقشف الصارم مع تجنب الانكماش النقدى؟ أليس من الضرورى وجود تنسيق لصيق بين السياستين المالية والنقدية؟»



عمر الشنيطى
26 - يوليو - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Friday, July 11, 2014

التقشف الصارم له بدائل .. بطبيعة الحال!!

منذ أن قامت الحكومة مؤخرا برفع أسعار الطاقة، بدا وكأن عقارب الساعة قد توقفت فأصبح لا يخلو حديث من نقاش وضجر بسبب ارتفاع الأسعار. لكن من ناحية أخرى، يؤكد مسؤولو الحكومة أن التقشف الصارم لخفض عجز الموازنة هو الخيار الوحيد. وإن اتفقنا أن الوضع الاقتصادي متفاقم وأنه لا يمكن السكوت عنه، فإن منهج التعامل معه قد يأخذ أشكالاً عدة، لكل منها وجاهته، ومناقشة هذه الأشكال ضرورة ولا يجب اعتبار من يطالب بإعادة النظر في التقشف الصارم ضعيفاً أو عديم الوطنية.
تواجه الحكومة أزمة اقتصادية طاحنة تجلت في العام الماضي (٢٠١٣/٢٠١٤)، فعلى الرغم من المساعدات الخليجية السخية التي تخطت ٢٠ مليار دولار إلا أن عجز الموازنة من المتوقع أن يصل من ١١% إلى١٢% من الناتج المحلي، وهو ما يعني أن العجز الحقيقي قبل المساعدات قارب ١٥% . وكان من المتوقع أن يصل العجز في العام الجديد (٢٠١٤/٢٠١٥) إلى ١٥% لو لم يتم تبني إصلاحات اقتصادية قاسية، والتي باتت ضرورة قصوى في ظل انحسار المساعدات الخليجية.
وإذا نظرنا إلى موازنة العام المالي الجديد، نجد أنها تتبنى منهجاً تقشفياً صارماً يعمل على تخفيض النفقات لخفض عجز الموازنة واحتواء الدين العام. وتأمل الحكومة الوصول للانضباط المالي الذي يجعلها مؤهلة لقرض صندوق النقد، مما يزيد من الثقة في الاقتصاد المصري، ويؤدي إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية وتحريك عجلة الاقتصاد مرة أخرى. لكن يأتي هذا التوجه بعلامات استفهام حيث أن معالجة الركود بالتقشف، عادة ما يؤدي إلى زيادة في الركود، وهو ما يتوقع حدوثه في اقتصاد نما بمقدار اثنين في المائة العام المالي الماضي، على الرغم من السياسة التوسعية آنذاك. كما أن تدفق الاستثمارات الأجنبية قد يتأخر بسبب عدم استقرار الوضع السياسي والأمني. بالإضافة لذلك،سيكون لارتفاع الأسعار أثر سلبي على الفئات الأكثر فقراً في المجتمع، والتي لن تتحمل موجات التقشف المستقبلية، وإن كانت بعض الدول الأوروبية مثل اليونان قد مضت في هذا المسار بنجاح إلى حد كبير بعد الأزمة المالية العالمية، إلا أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار الفارق الكبير في مستويات الدخل ومعدلات الفقر والحالة السياسية بين مصر ومثل هذه الدول.
ويؤكد من يدعم هذا التقشف الصارم، بأنه لا توجد بدائل واقعية لذلك ويشير إلى عدم جدوى التوجه التوسعي في معالجة الأزمة، والذي يتعمد على زيادة الإنفاق والاستثمار الحكومي لتحريك الأسواق، وزيادة الطلب المحلي مما يؤدي إلى زيادة معدلات النمو وإيرادات الموازنة، وبالتالي خفض العجز في النهاية. ولعل السبب في ذلك الاعتراض يعود إلى حاجة الحكومة لأموال طائلة لتمويل هذا التوجه وكذلك القدرة على تحمل تفاقم عجز الموازنة والدين الداخلي مرحلياً، حتى يعاود الاقتصاد نموه، وقد انتهجت أمريكا هذا التوجه لمواجهة الأزمة المالية العالمية، حيث استطاعت تمويل هذه السياسة التوسعية بالتمادي في خلق النقود واستخدامها لشراء الدين الحكومي وتمويل عجز الموازنة، وهو أمر قد لا تستطيع دولة مثل مصر تبنيه، للفارق الكبير بين قوة الدولار مقابل الجنيه.
وإذا كان التوسع المفرط غير ملائم لمصر، فإن التقشف الصارم لا يختلف عنه في ذلك ومن المهم البحث عن بديل أنسب. ويبرز في هذا السياق إمكانية تبني برنامج تقشف تدريجي ومتوازن، يتعامل مع جانبي الموازنة، من حيث خفض الإنفاق المهدر وكذلك زيادة الإيرادات من الطبقات القادرة على تحمل ذلك. فهناك جزء ليس بالقليل من الدعم يذهب لغير مستحقيه، ويمكن خفضه من خلال استخدام نظام موجه، مثل كروت البنزين التي يمكن استخدامها لتحميل خفض الدعم على الأغنياء ومرتفعي الاستهلاك. كما يمكن للحكومة رفع أسعار السولار لكن بشكل تدريجي وبالتوازي مع زيادة قدرة شبكة النقل العام لتقليل حدة رفع الأسعار. ويمكن للحكومة كذلك اتباع سياسة استهدافية برفع أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي بشكل متفاوت بحسب المناطق الجغرافية ومستويات الاستهلاك لضمان التوزيع النسبي لفاتورة رفع الدعم بما تستطيع كل فئة تحمله. بالإضافة لذلك تستطيع الحكومة الحفاظ على مستويات متوسطة من الإنفاق الاجتماعي والاستثماري لتحفيز الطلب المحلي وهو ما ينعكس على مستويات دخل الأفراد وأرباح الشركات والذي تستطيع الحكومة جني ثماره بتوسيع القاعدة الضريبية وتصاعدية الضرائب.
قد يكون هذا التوجه أنسب للحالة المصرية اقتصادياً واجتماعياً، والجدير بالذكر أن المشروع الأول للموازنة كان يستهدف عجزاً بلغ ١٢%، ويعمل بشكل تدريجي على خفض النفقات وزيادة الإيرادات، إلا أن المشروع الثاني الذي تم إقراره جاء أكثر صرامة ليخفض العجز إلى عشرة في المائة بين عشية وضحاها، معللا بأن هذا المستوى يعتبر آمنا إلا أن حاجز العشرة في المائة المزعوم هو مجرد حاجز نفسي ليس له تلك الأهمية الكبيرة. فهذه المستويات للعجز (التي تتراوح بين عشرة وبين 12%) مرتفعة على كل حال لكن ما يهم هو سياسة الحكومة في الخروج من الأزمة، والأثر المتوقع لهذه السياسة اقتصادياً واجتماعياً، وهو ما ينظر إليه الممولون مثل صندوق النقد.
الخلاصة تتمثل بأن وضع الاقتصاد الحرج، يجعل من الصعب الاستمرار على نفس النهج، لكن التقشف الصارم ليس الحل الوحيد كما أنه ليس الحل الأمثل، وقد يكون تبني توجه تقشفي متوازن، يهدف لخفض المصروفات المهدرة، ورفع الإيرادات المتاحة تدريجياً، هو التوجه الأنسب في المرحلة القادمة وعلى المجتمع مناقشته بموضوعية.

عمر الشنيطى
11 - يوليو - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق" و "موقع CNN  بالعربية"