Saturday, December 21, 2013

عن معضلة الدعم

لا يكاد يخلو حديث عن وضع الاقتصاد المصرى إلا ويذكر الدعم كمعضلة كبيرة يجب مواجهتها. يأتى هذا بعد أن خرج الناس فى ٢٥ يناير مطالبين بالعيش والعدالة الاجتماعية، لكن بعد مرور قرابة ثلاث سنوات لم يتحسن الوضع الاقتصادى بل على العكس يزداد الوضع سوءا، كما أن هناك تخوفات من رفع الدعم وما سيعقبه من ارتفاع كبير فى الأسعار. ونظرا لحساسية موضوع الدعم، وجب علينا توضيح حجم الدعم الحكومى وسياسات التعامل معه وآثار هذه السياسات.

يعتبر الدعم من المساعدات التى تقدمها الدولة للمواطنين، حيث تغطى جزءا من سعر المنتجات الرئيسية حتى تُطرح بسعر منخفض فى السوق. بدأ تطبيق برنامج الدعم فى مصر فى ١٩٤١ أثناء الحرب العالمية الثانية، وتطور بمرور الوقت بدافع سد احتياجات المواطنين وإحداث عدالة فى التوزيع. كان برنامج الدعم يمثل ٤٪ من إجمالى النفقات الحكومية خلال التسعينيات إلا أنه ارتفع بشدة مؤخرا بسبب ارتفاع أسعار المنتجات المدعومة ليصل إلى ٢٣٪، أى ما يقارب ١٦٠ مليار جنيه فى العام المالى الحالى. ويمثل دعم الطاقة ٧١٪ من إجمالى فاتورة الدعم، بينما يمثل دعم المواد الغذائية وغيرها ٢٩٪.

ومع هذه الفاتورة الباهظة، يأتى السؤال حول مدى استدامة الدعم خاصة فى ظل وضع اقتصادى معقد بلغ فيه عجز الموازنة ٢٤٠ مليار جنيه فى العام المالى الماضى، أى ما يعادل ١٣٫٨٪ من إجمالى الناتج المحلى، ومن المتوقع أن يتخطى العجز حاجز ٣٠٠ مليار جنيه فى العام المالى الحالى لو لم يتم اتخاذ إجراءات اقتصادية جذرية.

تشكل الرواتب وخدمة الدين والدعم حوالى ٨٠٪ من إجمالى النفقات الحكومية، وبما أن بند الرواتب يصعب تخفيضه وبند خدمة الدين لا مفر من زيادته، فإنه لا بديل عن النظر فى قضية الدعم. وقد أوضحت عدة دراسات اقتصادية مستقلة فى العقد الأخير وجود نسبة ليست بالقليلة من الدعم يتم إهداره، ولا يصل لمستحقيه. كما أن الفئات الأكثر ثراء فى المجتمع تحصل على حصة أكبر من الدعم مقارنة بالفئات الأكثر فقرا المستهدفة بالأساس ببرنامج الدعم، مما يجعل تخفيض فاتورة الدعم ضرورة ملحة.

تعمد الحكومات عادة إلى إعادة هيكلة الدعم إن كان لا يصل لمستحقيه، بينما تعمل على خفضه حينما يصل إلى مستويات مرتفعة. وتواجه الحكومات خيارين فى إعادة هيكلة الدعم كما أوضحت تجارب الأردن والجزائر وسريلانكا وإيران: أحدهما التحول إلى الدعم العينى الموجه حيث يتم استهداف الأسر الفقيرة والمتوسطة فقط من خلال توزيع البطاقات توزيعا عادلا واستبعاد الأسر الغنية نهائيا، بينما الخيار الثانى فهو التحول إلى الدعم النقدى المعتمد أساسا على رفع الأسعار إلى سعر التكلفة وإعطاء بديل مالى للأسر المستحقة حتى لا تتأثر برفع الأسعار فى السوق. ويضمن تطبيق الدعم العينى وصول الدعم لمستحقيه لكن يأتى ذلك على حساب الصعوبة والتكلفة المرتفعة للتطبيق. بينما تطبيق الدعم النقدى أسهل لكن يأتى ذلك على حساب زيادة التضخم.

قد يكون الدعم النقدى الأنسب للحالة المصرية من حيث السرعة والكفاءة. لكن من الواضح أن الحكومة تعمد على خفض الدعم فى المقام الأول أكثر من إعادة هيكلته بسبب عجز الموازنة المتفاقم. ويأتى على رأس ذلك خفض دعم الطاقة مثل بنزين السيارات والذى تأتى أولى خطواته بتطبيق كارت البنزين، والذى من المتوقع أن يعقبه إجراءات أخرى. كما قامت الحكومة السابقة برفع سعر الغاز على الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة مثل الإسمنت قبل ٣٠ يونيو لكن لم تسمح الحكومة السابقة أو الحالية لهذه المصانع باستيراد واستخدام بدائل للطاقة مثل الفحم لدواعٍ بيئية. ولا يظهر حتى الآن كيف تنوى الحكومة التعامل مع دعم الكهرباء والبوتاجاز، وقد يكون التحول للدعم النقدى هو الأفضل فى هذا الصدد، لكن من الأرجح أن الحكومة ستقوم باتباع طريقة الدعم العينى الموجه خوفا من التضخم. ويظل دعم الغذاء خارج نطاق التخفيض خوفا من تكرار الاحتجاجات العارمة التى حدثت حينما شرع الرئيس السادات فى ذلك ويظل التوجه فى هذا الصدد هو منع الإهدار وهو ما ركزت عليه الحكومة السابقة.

وسيكون لتوجه الحكومة الذى لا مفر منه نتائج متباينة. فرفع الدعم تدريجيا على البنزين سيؤدى إلى تخفيض فاتورة الدعم، وبالتالى عجز الموازنة ليعود لمستويات منطقية. بينما رفع الدعم تدريجيا على الغاز للأنشطة الصناعية يخفض من القدرة التنافسية لهذه الصناعات كما يصيبها بالشلل بسبب عدم استدامة توريد الغاز للمصانع وعدم السماح باستيراد واستخدام بدائل للطاقة مثل الفحم مما يقلل من أرباح الشركات، وبالتالى الحصيلة الضريبية منها، لكن التخفيض فى فاتورة الدعم سيكون أكبر من انخفاض الحصيلة الضريبية. أما احتمالية إعادة هيكلة دعم الكهرباء والبوتاجاز فستؤدى إلى تخفيض مؤكد فى فاتورة الدعم لكن يأتى ذلك على حساب زيادة مستوى الأسعار والتى قد تثير احتجاجات شعبية.

الخلاصة أن عجز الموازنة المتصاعد وهيكل النفقات الحكومية يجعل من شبه المستحيل إبقاء الدعم على مستواه الحالى ولذلك من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة رفعا تدريجيا للدعم الموجه للفئات الأكثر ثراء عن طريق تخفيض دعم بنزين السيارات وكذلك الاستمرار فى تخفيض دعم الغاز للمصانع، بينما من المتوقع أن تتم إعادة هيكلة دعم الكهرباء والبوتاجاز وإن كانت هذه الخطوة وآلياتها مازالت غير واضحة. ومن المتوقع أن يكون لهذا التوجه الضرورى نتائج متباينة بين تحسن لعجز الموازنة مقابل زيادة فى التضخم، بينما التطبيق غير المكتمل أو المتسرع قد يؤدى إلى احتجاجات واسعة. وتعتبر الشفافية من ناحية الحكومة فى مثل هذه القضايا الاقتصادية غير الشعبوية ضرورة ملحة إلا أنها غائبة حتى الآن.

عمر الشنيطي
21 ديسمبر 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Saturday, December 7, 2013

عن العلاقات المصرية التركية

تعتبر تركيا أحد أهم اللاعبين فى المنطقة سياسيا واقتصاديا وقد انتعشت علاقاتها الاقتصادية مع مصر فى السنوات التى سبقت ثورة ٢٥ يناير وما بعدها٬ لكن بعد ٣٠ يونيو شهدت هذه العلاقات أزمة حقيقية بعد التوتر السياسى الذى حدث بين البلدين مما أدى إلى تخفيض التمثيل الدبلوماسى بين البلدين لأسباب سياسية. وقد انبرى الخبراء فى تحليل الخسائر الاقتصادية جراء هذا التوتر٬ فذهب البعض إلى أن تركيا هى الخاسر من ذلك بينما ذهب آخرون إلى عكس ذلك. ولذلك يهدف هذا المقال إلى إلقاء الضوء على الأبعاد الاقتصادية للعلاقات المصرية التركية وتحليل نتيجة التوتر السياسى الأخير عليها.

يمتد تاريخ العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا لعقود حيث وقع البلدان أول اتفاقية للتجارة فى ١٩٦٦ ثم اتفاقية ثانية فى ١٩٧٦ وثالثة فى ١٩٩٦ لكن هذه الاتفاقيات لم تؤد إلى نمو كبير فى حجم التبادل التجارى بين البلدين. فى عام ٢٠٠٥ قام البلدان بتوقيع اتفاقية جديدة للتجارة والتى دخلت حيز التنفيذ فى مطلع عام ٢٠٠٧، كان لهذه الاتفاقية أثر كبير فى تعميق العلاقات الاقتصادية بين البلدين حيث تضاعف إجمالى التبادل التجارى بين البلدين فى خلال عامين من تطبيق الاتفاقية٬ كما فتحت هذه الاتفاقية الباب أمام الاستثمارات التركية لدخول السوق المصرية. وعقب ثورة ٢٥ يناير٬ تطورت العلاقات السياسية بشكل كبير وكذلك الاقتصادية بالتبعية بشكل أسرع.

لكن هذه العلاقات السياسية ما لبثت أن تراجعت بعد عزل الرئيس السابق ودخول مصر فى مرحلة انتقالية جديدة. ويتوقع العديد من الخبراء تراجع التعاون الاقتصادى بين البلدين جراء ذلك. وقبل النظر فى العلاقات الاقتصادية بين البلدين٬ يجب إدراك تعقد وتشابك العلاقات الاقتصادية بين الدول وكذلك أبعادها المختلفة حيث يستفيد فيها كل طرف من الآخر٬ وهو ما يعتبر أساس فكرة التكامل الاقتصادى فى العصر الحديث. لذا يجب علينا تحليل أربعة جوانب رئيسية: التبادل التجاري٬ التبادل السياحي٬ الاستثمارات المباشرة٬ والمساعدات الاقتصادية.

بالنسبة للتبادل التجاري٬ بلغت إجمالى الصادرات المصرية لتركيا ١٫١ مليار دولار فى العام المالى الماضي٬ قرابة ٤٪ من إجمالى الصادرات المصرية٬ وتأتى على رأسها الأرز والفحم والبتروكيماويات والقطن والفوسفات. بينما بلغت إجمالى الصادرات التركية لمصر ٢٫٣ مليار دولار فى العام المالى الماضي٬ قرابة ٢٪ من إجمالى الصادرات التركية٬ وتأتى على رأسها السيارات والحديد والخضر والفواكه والمنسوجات. وحيث إن تركيا تصدِّر لمصر أكثر مما تستورده منها٬ فإن التبادل التجارى بين البلدين يصب فى صالح تركيا.

ومن المتوقع ألا يؤدى التوتر السياسى الأخير إلى تقهقر كبير فى حجم التبادل التجارى لكن على الأرجح سيؤدى إلى عدم زيادة مستواه الحالى. وفى حالة حدوث تأثر٬ فإن الصادرات التركية وعلى رأسها الحديد هى ما قد تتأثر٬ خاصة مع وجود تحفظات كبيرة من المنتجين المصريين على ذلك٬ بينما على الصعيد الآخر لا يتوقع حدوث تغير كبير فى مستوى الصادرات المصرية لتركيا بسبب طبيعة هذه الصادرات. لذلك فإن خسائر تركيا من المتوقع أن تكون أكبر فى جانب التبادل التجاري٬ وإن كانت إجمالى هذه الخسائر ضئيلة.

أما عن التبادل السياحي٬ فقد بلغ متوسط عدد السائحين المصريين لتركيا قرابة ٦٠ ألف سائح سنويا فى الأعوام القليلة الماضية٬ بينما لا يتعدى عدد السائحين الأتراك لمصر بضعة آلاف سنويا٬ وهما ما يجعل التبادل السياحى بين البلدين يصب فى صالح تركيا. ومن المتوقع أن تؤدى التطورات الأخيرة إلى تراجع التبادل السياحى بين البلدين خاصة مع الدعوات المتصاعدة فى مصر لمقاطعة السياحة التركية وهو ما قد يؤثر على عدد السائحين المصريين لتركيا. ولذلك فإن خسائر تركيا من المتوقع أن تكون أكبر فى جانب التبادل السياحى.

وبالنظر للاستثمارات المباشرة٬ نجد أن إجمالى الاستثمارات التركية المباشرة فى مصر قد بلغت حوالى ١٫٥ مليار دولار وتوظف هذه الاستثمارات ما يزيد على ٥٠ ألف عامل مصري٬ بينما الاستثمارات المصرية المباشرة فى تركيا منخفضة٬ إن لم تكن منعدمة. ومع التوتر السياسى الأخير٬ فإنه من الطبيعى أن تتوقف الاستثمارات التركية المباشرة فى مصر عن الزيادة فى الفترة القادمة مع احتمالية خروج العديد من المستثمرين الأتراك من السوق المصرية مخافة الاضطهاد السياسى والمقاطعة الاقتصادية. لذلك فإن خسائر مصر من المتوقع أن تكون أكبر بكثير فى جانب الاستثمارات المباشرة والتى تحتاج إليها مصر بشدة لإنعاش الاقتصاد.

أما على صعيد المساعدات الاقتصادية٬ فقد قامت تركيا بتقديم حزمة من المساعدات لمصر فى أكتوبر ٢٠١٢ بلغت ٢ مليار دولار٬ مليار دولار منحة لا ترد ومليار دولار قرضا. بينما لم تقدم مصر أية مساعدات اقتصادية فى الماضى القريب لتركيا والتى شهدت نهضة اقتصادية كبيرة فى السنوات الاخيرة. ومن البديهى توقف المساعدات التركية لمصر جراء التصعيد السياسى الأخير. لذلك فإن مصر هى الخاسر الحقيقى فى جانب المساعدات الاقتصادية٬ فى وقت تحتاج مصر فيه لكل دعم متاح.

الخلاصة أن العلاقات الاقتصادية بين الدول دائما ما تكون متشابكة ولها أبعاد مختلفة يستفيد فيها كل طرف من الآخر من باب التكامل الاقتصادى. ومع تصاعد حدة التوتر السياسى مؤخرا بين مصر وتركيا٬ فإنه من المتوقع حدوث خسائر اقتصادية للطرفين٬ تخسر فيها تركيا على صعيد التبادل التجارى والتبادل السياحي٬ بينما تخسر مصر أكبر من ذلك على صعيد الاستثمارات المباشرة والمساعدات الاقتصادية، مما يجعل مصر فى المجمل الخاسر الحقيقى اقتصاديا نتيجة هذا التصعيد السياسى والذى يأتى فى وقت تمر فيه مصر بأزمة اقتصادية طاحنة ومتصاعدة تدفعها لزيادة الاعتماد على السعودية والإمارات والكويت٬ بشكل مقلق وغير متوازن سياسيا.

عمر الشنيطي
7 ديسمبر 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"