Monday, February 22, 2016

جنون الدولار .. (س) و (ج)

الكل مشغول بقضية الدولار حتى أن سعر صرف الجنيه أصبح موضوعا عاما تتم إثارته في الجلسات الاجتماعية، ويتحدث عنه الجميع بصرف النظر عن مستوى تعليمهم، أو القطاع الذي يعملون به. ولعل السبب في ذلك هو إدراك الناس أن سعر الصرف له تأثيرات على أداء الاقتصاد، أبرزها ارتفاع أسعار السلع المختلفة مع كل موجة انخفاض للجنيه. ويطرح الناس عدة أسئلة عن قضية الدولار تسعى "أصوات مصرية" للإجابة عليها بشكل مبسط.
كيف يتم تحديد السعر الرسمي للجنيه؟
من المفترض أن سعر صرف الدولار مقابل الجنيه يتم تحديده في السوق بناء على عوامل العرض والطلب، مثل أي من السلع الأخرى، لكن بسبب حساسيته وأثر تغيره على أسعار السلع والخدمات يتدخل البنك المركزي في السوق لضمان عدم تحرك السعر بشكل كبير. فإذا زاد الطلب على الدولار، يستخدم البنك المركزي احتياطي النقد الأجنبي المتراكم لديه لسد الطلب وضمان عدم انخفاض قيمة الجنيه بشكل كبير، لتجنب موجة تضخمية كبيرة.
أما إذا انخفض الطلب على الدولار، فإن البنك المركزي يتدخل لشراء العملة الأجنبية من السوق وزيادة الاحتياطي منها، بما يضمن عدم ارتفاع الجنيه بشكل كبير، يترتب عليه ارتفاع أسعار الصادرات المصرية. وتسمى تلك السياسية "التعويم المدار"، وتهدف لوجود مساحة لارتفاع وانخفاض سعر الصرف بناء على عوامل العرض والطلب، لكن في إطار متوازن يمنع الاضطرابات الكبيرة.
ماذا يعني التعويم الكامل للجنيه؟ ما المقصود بالقيمة العادلة للعملة؟
التعويم الكامل للجنيه يقضي بأن يرفع البنك المركزي يده عن سعر الصرف ويترك تحديده للسوق، بناء على عوامل العرض والطلب، وهذا يعني أن سعر صرف الجنيه أمام الدولار قد يتذبذب ارتفاعا وانخفاضا بشكل كبير.
وسينتج عن ذلك تداول الجنيه بالقيمة العادلة له، وهي القيمة التي تحددها عوامل العرض والطلب في السوق، وليس بناء على ما يراه المركزي سعرا عادلا. وبناء على العديد من التحليلات، فإن السعر العادل للجنيه إذا ما ترك للعرض والطلب سيتخطى ٩ جنيهات للدولار.
لماذا خفض البنك المركزي الجنيه أكثر من مرة خلال العام الماضي؟
قبل ٢٠١١ كان هناك توازن بين ما يدخل الاقتصاد من عملة صعبة وما يخرج منه. فالفجوة المستدامة بين الواردات والصادرات تعوضها الاستثمارات الأجنبية وعائدات السياحة وتحويلات المصريين بالخارج.
وعندما اتسعت الفجوة بين الواردات والصادرات، في الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٥، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة والسياحة بعض الشيء، فإن المساعدات الخارجية، خاصة الدعم الخليجي السخي منذ منتصف ٢٠١٣ وحتى بداية ٢٠١٥، كانت كفيلة بسد تلك الفجوة. ولعل هذا ما ساعد البنك المركزي على الدفاع عن الجنيه خلال تلك الفترة.
 لكن ٢٠١٥ شهد تراجعا كبيرا في الدعم الخليجي بسبب انخفاض أسعار البترول العالمية، والذي أثر أيضا على تحويلات المصريين بالخارج، بينما لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية كما كان متوقعا بعد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة.
وكذلك أثر تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي سلبا على حركة التجارة العالمية وإيرادات قناة السويس. وبالإضافة لذلك، ضُربت السياحة في مقتل بعد سقوط الطائرة الروسية مما زاد من المخاوف بخصوص الأعمال الإرهابية.
كل هذه الأسباب أثرت على موارد الاقتصاد من الدولار، بينما ظلت الواردات في ازدياد مما عمّق من الفجوة بين ما يدخل الاقتصاد من عملة صعبة وما يخرج منه. ولم يستطع البنك المركزي معادلة تلك الفجوة بسبب انخفاض حجم الاحتياطي لديه، لذلك لجأ لتخفيض قيمة الجنيه أكثر من مرة خلال ٢٠١٥.
لماذا تعدى الدولار ٩ جنيهات في السوق السوداء؟
تخفيض الجنيه أكثر من مرة خلال ٢٠١٥ لم ينعكس بشكل إيجابي على زيادة موارد الاقتصاد من الدولار والعملات الصعبة، مما جعل الضغط على العملة المحلية يستمر ويتزايد.
فلم يشجع تخفيض الجنيه على زيادة الاستثمارات الأجنبية، لأن تراجعها لا يرتبط بقيمة العملة، وإنما يعود لأسباب سياسية وأمنية بالإضافة لتباطؤ النمو العالمي. 
كما أن تراجع السياحة ليس سببه أنها مرتفعة التكلفة ولكن نتيجة لمخاطر الإرهاب. أما الصادرات فتواجه أزمة تراجع الطلب العالمي نتيجة انخفاض النمو.
بينما تأثرت تحويلات المصريين بتراجع أسعار البترول والأزمة الاقتصادية في دول الخليج، التي يعمل بها الجزء الأكبر من المصريين بالخارج.
بالإضافة لتلك العوامل الخارجية، ساهمت بعض العوامل الداخلية في زيادة الضغط على الجنيه حيث أن سياسات البنك المركزي التي فرضت حدا أقصى لإيداع الدولار بالبنوك قد حولت مسئولية تدبير العملة من التجار إلى البنك المركزي، وأوصلت رسالة واضحة أن المركزي غير قادر على الدفاع عن الجنيه، مما زاد من المضاربة على الدولار وأثر على توافر العملة الصعبة المطلوبة لاستيراد السلع المختلفة، ومنها الكثير من السلع الأساسية.
وساهمت المضاربات في رفع سعر الدولار أمام الجنيه مؤخرا في السوق الموازية، خاصة بعد الأنباء التي تم تداولها عن تقدير الحكومة أن يكون السعر الرسمي للدولار ٨٫٢٥ جنيه في موازنة السنة المالية الجديدة، مقابل 7.73 جنيه حاليا.
 - هل لابد فعلا من تخفيض الجنيه.. وهل يستفيد الاقتصاد المصري؟
وجود فجوة تزيد على ١٥٪ بين السعر الرسمي والسعر الموازي للجنيه أمام الدولار وضع يصعب استمراره، وفي الأغلب سيلجأ البنك المركزي للتخفيض في الأشهر القليلة القادمة، وقبل بداية العام المالي الجديد.
لكن من غير المتوقع أن يقوم المركزي بتعويم الجنيه أو بتخفيضه بنسبة كبيرة مرة واحدة. انخفاض الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي أمر ضروري لكن من الصعب توقع أن ينعكس ذلك إيجابيا على أداء الاقتصاد، لأن انخفاض الاستثمارات الأجنبية والسياحة بقوة وغيرهما من مصادر النقد الأجنبي يرجع لأسباب سياسية أو أمنية أو عوامل مرتبطة بالاقتصاد العالمي، وبالتالي خارجة عن سيطرة الاقتصاد المصري ومن يديره.
ما هي التأثيرات السلبية لخفض الجنيه ومن يتحملها؟
ارتفاع سعر صرف الدولار دائما ما تصاحبه موجة زيادة في الأسعار، حيث أن الكثير من المنتجات التي نستهلكها يوميا مستوردة، وحتى المنتجات المحلية يدخل في تصنيعها الكثير من المواد الخام المستوردة.
ولذلك هناك تكلفة اجتماعية كبيرة لانخفاض قيمة الجنيه، تتحملها الشرائح المختلفة في المجتمع، لكن الفئات الميسورة لديها فائض في دخلها يمكنها من امتصاص أثر ارتفاع الأسعار، أما الفقراء ومحدودي الدخل فليست لديهم المساحة لذلك، وسيكون عليهم التخلي عن بعض احتياجاتهم الأساسية.
ما هي التوقعات للفترة القادمة؟
من المتوقع أن يقوم البنك المركزي بتخفيض قيمة الجنيه قبل بداية العام المالي الجديد، في يوليو، لتصل إلى ما يتراوح بين ٨٫٢٥ و٨٫٥٠ جنيه للدولار في البنوك. ومن المنتظر أيضا أن يسرع المركزي من اتفاقات التمويل مع المؤسسات المالية العالمية، مثل البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي وغيرها، لتوفير العملة الصعبة.
كما يُتوقع أن تبدأ الحكومة في خصخصة بعض الشركات الحكومية، من بنوك وشركات تأمين، لتوفير العملة الصعبة. إضافة لذلك ستلجأ الحكومة للحلفاء الخليجين في أوقات الشدة لضخ الدولار سواء في صورة قروض أو استثمارات مباشرة.
تلك الإجراءات والمبادرات ستتيح للبنك المركزي عملات أجنبية تساعده على الدفاع عن الجنيه. كما يتوقع أن يحافظ المركزي على أسعار الفائدة البنكية مرتفعة، ويوجه البنوك الحكومية لإصدار مزيد من الشهادات مرتفعة الفائدة لتشجيع الأفراد على تحويل مدخراتهم من الدولار للجنيه.
من المتوقع أيضا أن يعمل البنك المركزي على تقليص فاتورة الاستيراد، كما سيستمر في الهجوم على شركات الصرافة وتحميلها مسئولية المضاربة على الدولار. تلك الإجراءات المتعددة قد تساعده على السيطرة على سعر الصرف دون الحاجة لتخفيض كبير، أو للجوء للتعويم والذي يعتبر خطا أحمر، نظرا لردة فعله الاجتماعية والسياسية.
لكن تلك الإجراءات لن تقضي على السوق الموازية التي ستستمر بل وستشتعل من فترة لأخرى.
كما أن الفترة القادمة ستشهد ليس فقط غلاء في الأسعار بل أيضا نقصا في توافر العديد من السلع والمنتجات، ولن يقتصر ذلك على السلع الرفاهية بل سيطال العديد من السلع الأساسية، نتيجة توجه ترشيد الاستيراد.
في النهاية، سيظل الضغط على الجنيه في ازدياد حتى تستقر الأوضاع السياسية والأمنية، ويتم وضع سياسة اقتصادية متكاملة، وتتحسن أوضاع الاقتصاد العالمي وتستقر أسعار البترول.

عمر الشنيطى
22 - فبراير - 2016
نُشر هذا المقال على موقع "أصوات مصرية"

Friday, February 19, 2016

القروض تأتى بشروط.. لا عيب فى ذلك



تم الإعلان أخيرا عن حصول مصر على قرض من البنك الدولى بقرابة ٣ مليارات دولار، والذى حصلت مصر على ثلثه بالفعل، كما تم الإعلان عن قرض آخر من بنك التنمية الأفريقى. بدت تلك الاتفاقات على أنها شهادة ثقة على صلابة الاقتصاد المصرى ومصداقية برنامج الإصلاح الاقتصادى، لكن على صعيد آخر، تعالت الأصوات المتسائلة عن شروط تلك القروض وعن الأثر الاجتماعى لها ومساس تلك الشروط بسيادة الدولة.

أكدت الحكومة على عدم وجود شروط من قبل البنك الدولى، لكن سريعا ما كشف البنك الدولى بنفسه عن الشروط الأساسية لهذا القرض. المؤسسات العالمية ونصائحها وقروضها ستكون ركنا أساسيا من أركان الاقتصاد فى الفترة القادمة، ومن المهم التعرف على طبيعة تلك القروض. فالهدف من المقال ليس الإشادة ببرنامج الإصلاح الاقتصادى أو مهاجمته وليس الاعتراض على قرض البنك الدولى أو تشجيعه، إنما الهدف هو توضيح آلية عمل مثل هذه القروض.

إذا أرادت دولة الحصول على تمويل من المؤسسات العالمية، فإنها تقوم بالاستعانة بفريق استشارى لرسم برنامج إصلاح اقتصادى وعادة ما يُستعان بالفريق الاستشارى للبنك الدولى لتقديم الدعم الفنى لسببين. أولا: خبرة ذلك الفريق والتى تشكلت عبر الكثير من تجارب الإصلاح الاقتصادى التى أشرف عليها البنك حول العالم، والتى استقى منها الكثير من الدروس، سواء من تجارب النجاح أو الفشل. ثانيا: اشتراك الفريق الاستشارى للبنك فى وضع برنامج الإصلاح الاقتصادى يجعل من البديهى حصول الدولة على القرض من البنك الدولى فى النهاية. بناء على الخطة النهائية المقدمة يقوم الفريق المسئول عن التمويل بفحص الخطة المالية. كما يقوم بوضع بعض الشروط لضمان التزام الدولة الطالبة للتمويل بالخطة المالية المقدمة. بالإضافة لذلك اشتراك البنك الدولى فى وضع خطة الاصلاح الاقتصادى، يعطى الكثير من المصداقية لدى المؤسسات العالمية الأخرى، ويسهل عملية الحصول على التمويل.

ولعل الآلية السابق ذكرها، تعكس تجربة مصر إلى حد كبير، حيث قدم البنك الدولى فى السنوات الثلاث الأخيرة، الكثير من الدعم الفنى لبرنامج الإصلاح. مع بداية المرحلة الانتقالية الثانية فى منتصف ٢٠١٣، كان من الواضح حاجة الاقتصاد لبرنامج إصلاح متكامل، وهو ما وضعته الحكومة بالاستعانة بخبرات البنك الدولى والعديد من المؤسسات العالمية الأخرى، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية. الأول: خفض عجز الموازنة المتصاعد. الثانى: توفير مصادر مستدامة للطاقة. والثالث: تحسين بيئة الاستثمار. وقد عملت الحكومة خلال العامين الماضيين على تنفيذ ذلك البرنامج عن طريق تخفيض دعم الطاقة وتخفيض بند الأجور المستقبلى من خلال إصدار قانون الخدمة المدنية الذى اعترض عليه البرلمان، وكذلك إصدار قانون الاستثمار وعقد مؤتمر اقتصادى كبير العام الماضى.

على الرغم من اشتراك البنك الدولى فى وضع برنامج الإصلاح الاقتصادى، الذى يراه البعض برنامجا إصلاحيا بينما يراه البعض الآخر تقشفيا، وشروع الحكومة فى تطبيقه إلا أن الحكومة لم تلجأ للاقتراض من البنك الدولى إلا أخيرا، حيث إن الدعم الخليجى السخى الذى تدفق على مصر منذ منتصف ٢٠١٣ وحتى بداية ٢٠١٥ كان قادرا على سد الفجوة التمويلية واحتياجات مصر من الدولار. لكن خلال ٢٠١٥ تغير الوضع حيث تراجعت أسعار البترول، مما خفض من قدرة الخليج على دعم الاقتصاد المصرى وكذلك تراجعت إيرادات السياحة بعد سقوط الطائرة الروسية. كما أن الفجوة بين الواردات والصادرات قد اتسعت فى وقت أصبح الجنيه المصرى مرتفعا مقارنة بالعديد من العملات الأجنبية، بينما لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية كما كان متوقعا نتيجة الاضطراب السياسى والأمنى من ناحية إلى جانب وجود بوادر لأزمة اقتصادية عالمية جديدة، مما أدى لوجود فجوة تمويلية كبيرة لدى الحكومة وضغط هائل على الجنيه المصرى، ولذلك توجهت الحكومة للمؤسسات العالمية طلبا للتمويل.

برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى قدمته الحكومة للبنك الدولى ليس وليد اللحظة والحكومة بالفعل تعمل على تنفيذه منذ ٢٠١٤. لكن فى المرحلة السابقة اعتمدت الحكومة بشدة على الدعم الخليجى الذى لم يكن مشروطا بإصلاحات اقتصادية مباشرة إلا أنه بلا شك يأتى بتكلفة سياسية سنحتاج تسديدها فى مرحلة ما. الآن وقد تراجع الدعم الخليجى وبدأت مرحلة التمويل من المؤسسات العالمية، فإن تلك المؤسسات لديها من الحكمة ما يكفى لتضع شروطا تلزم مصر، كما هو الحال مع أى دولة مقترضة، بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التى قدمتها فى خطتها لضمان استدامة الوضع المالى وقدرة الاقتصاد على سداد الديون المستحقة لاحقا.

برنامج الإصلاح الاقتصادى ليس جديدا واشتراطات البنك الدولى على الحكومة المصرية وإلزامها بتنفيذ الإجراءات التى عرضتها فى خطتها ليس غريبا، هكذا تسير الأمور إذا أرادت الدولة الحصول على قروض. لا يعنى ذلك بطبيعة الحال أن برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى وضعته الحكومة هو الأفضل، على العكس من ذلك، فهناك الكثير من علامات الاستفهام خاصة على الأثر الاجتماعى لمثل هذه الإجراءات والتى تؤدى لارتفاع الأسعار بشكل كبير وهو ما رصدته بالفعل الإحصاءات الرسمية. ولعل تحرك الدولة منذ عدة شهور لإطلاق مبادرات لتخفيض الأسعار بالاشتراك مع وزارة التموين والمؤسسات السيادية خير دليل على الأثر التضخمى الكبير لتلك السياسات التى تؤثر سلبا على المجتمع حتى مع برامج الضمان الاجتماعى التى تم إطلاقها بشكل احترازى، لكن الواقع أن الأثر السلبى لتلك السياسات أكبر بكثير.

المؤسسات المالية العالمية تلعب الآن دورا كبيرا فى المشهد الاقتصادى المصرى بعد تراجع الدعم الخليجى. نحصل على قروض كبيرة الآن قد تعطى شهادة اقتصادية وتساهم فى حل أزمة الدولار، لكن سيتحمل المجتمع تكلفة اجتماعية كبيرة نتيجة الإصلاحات الاقتصادية المشروطة، كما ستحتاج الأجيال القادمة سداد تلك القروض ولذلك يجب أن تؤخذ تلك الأمور على محمل الجد. العلاقة لا يجب أن ينظر لها على أنها علاقة خضوع، فالمصلحة مشتركة بين البنك الدولى ومصر. لكن أيضا ليس من المنطق إنكار وجود شروط للقرض بل يجب الإفصاح عن تلك الشروط وعرضها على المجتمع، لمناقشتها ثم اعتمادها من مجلس النواب، مع الأخذ فى الاعتبار الأثر الاجتماعى والسياسى لتلك الإصلاحات الحرجة.

عمر الشنيطى
 19- فبراير - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Friday, February 5, 2016

معضلة ترشيد الاستيراد وتشجيع التصنيع المحلى

فى ظل تأزم الوضع الاقتصادى، تتعالى الأصوات التى تنادى بضرورة تقليص الواردات وزيادة الصادرات وتشجيع التصنيع المحلى. من الصعب وجود خلاف على هذا التوجه، حيث إنها أهداف سينتج عن تحقيقها زيادة معدلات الإنتاج المحلى وانخفاض البطالة، كما سينتج عنها زيادة فى صافى العملة الصعبة المتوفرة فى الاقتصاد، مما يقلل الضغط على الجنيه. لكن تحقيق تلك الأهداف ليس سهلا، وقد يؤدى التعجل فى الوصول لها إلى آثار سلبية على الاقتصاد.

تواجه مصر عجزا مستداما فى الميزان التجارى للسلع، حيث إن ما تستورده من منتجات دائما ما يفوق ما تصدره. وقد شهدت الفجوة بين الواردات والصادرات زيادة كبيرة، فبعد أن كان العجز قرابة ١٠ مليارات دولار فى منتصف العقد الماضى، ارتفع العجز ليصل لقرابة ٤٠ مليار دولار فى العام الماضى، وأصبحت الواردات تمثل ثلاثة أضعاف الصادرات السلعية. فى الوقت نفسه، تراجعت المنح والقروض والاستثمارات الأجنبية وكذلك إيرادات السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج، والتى كانت دائما ما تغطى هذا العجز، مما زاد من حدة الضغط على الجنيه، وأدى لوجود سوق موازية للعملة.

العلاج التقليدى فى تلك الأحوال هو تخفيض الجنيه لتشجيع الصادرات والسياحة وخفض الواردات، لكن التصور المعتمد الآن أن المزيد من التخفيض سيزيد من التضخم، الذى يفاقم الوضع الاجتماعى بينما الاستثمارات الأجنبية ليس من المتوقع أن ترتفع مع التخفيض، نتيجة الأوضاع السياسية وكذلك تباطؤ الاقتصاد العالمى، وينطبق ذلك أيضا على السياحة التى تراجعت نتيجة الأعمال الإرهابية. لذلك أصبح التوجه يتمحور حول تخفيض فاتورة الاستيراد، مما يزيد الطلب على المنتج المحلى ويقلل الضغط على الجنيه.

بناء على ذلك، قامت الحكومة بتطبيق قواعد جديدة تشترط تسجيل المصانع التى تقوم بتصدير منتجاتها لمصر لدى هيئة الرقابة على الصادرات والواردات المصرية، وقبول المصنع الأجنبى بالتفتيش من فريق فنى، للتأكد من استيفاء معايير البيئة وسلامة العمل. كما تم رفع الجمارك على عدد كبير من المنتجات بنسب متفاوتة. فى الوقت نفسه، قام البنك المركزى خلال العام الماضى، بوضع سقف لإيداع الدولار فى البنوك، والذى تم زيادته أخيرا على بعض السلع الأساسية، لتخفيض المضاربة على العملة وتقليص استيراد المنتجات غير الأساسية، طبقا لمعايير البنك المركزى الذى تولى مسئولية تدبير العملة واشترط أيضا أن تمر عمليات الاستيراد بالكامل من خلال البنوك المحلية وبالتنسيق مع بنك الشركة المصدرة، وأن يتم دفع كامل سعر المنتج المستورد قبل استيراده، مما يلغى الحد الائتمانى الذى يمنحه المصدر الأجنبى للمستورد المصرى.

وترى الدولة، أن تلك الإجراءات تهدف لتنظيم عملية الاستيراد والحد من استيراد البضائع رديئة المستوى والمنتجات الاستفزازية وكذلك الحد من التهرب الجمركى بمطابقة فواتير الواردات بين تحويلات البنوك ومصلحة الجمارك، مما يؤدى إلى الارتقاء بجودة المنتجات المعروضة فى السوق، وتشجيع المنتج المحلى ليحل محل المنتجات المستوردة. لكن المستوردين يرون فى تلك الإجراءات قتلا صريحا لقطاع الاستيراد ومن يعمل به، حيث إن تسجيل المصانع يصب فى مصلحة الشركات العالمية، التى ستستطيع الوفاء بذلك الشرط، أما الكثير من المصانع الصغيرة خاصة فى الصين فستخرج من السوق، وهو ما سيؤثر سلبا على توافر منتجات مستوردة منخفضة السعر كانت تخدم شريحة كبيرة.

ويرى المستوردون أيضا، أن قرارات البنك المركزى ستؤدى إلى تقليص حجم الواردات، بسبب عدم توافر العملة الصعبة، مما يؤدى إلى انخفاض المعروض فى السوق. كما أن اشتراط دفع كامل التكلفة يزيد من العبء التمويلى على المستوردين والذين بدورهم سيقومون برفع أسعار المنتجات المستوردة. عدم توافر المنتجات وارتفاع تكلفة الاستيراد وارتفاع الجمارك، ينعكس بطبيعة الحال على ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، والتى يعتبر الكثير منها أساسية. فعلى الرغم من تسليط الضوء دائما على أن مصر تستورد الكثير من السلع الاستفزازية، إلا أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن أغلب ما تستورده مصر تعتبر منتجات أساسية من مواد بترولية ومواد خام ومنتجات غذائية ومعدات وأجهزة يصعب الاستغناء عنها، وأن السلع غير الأساسية نسبة محدودة من إجمالى فاتورة الاستيراد البالغة ٦٠ مليار دولار.

لا أحد يختلف على أهمية التصنيع المحلى وضرورة تشجيعه، لكن من الصعب أن يستطيع التصنيع المحلى ملء الفجوة الناتجة عن تقليص التصدير بين عشية وضحاها، حيث إن زيادة التصنيع المحلى يتطلب فتح مصانع جديدة، وهو ما يتطلب فترة زمنية قد تصل لسنة وربما أكثر فى بعض الصناعات. التصنيع المحلى أيضا ليس منعزلا عن العالم الخارجى، حيث يعتمد على الكثير من المواد الخام ومستلزمات الإنتاج المستوردة، ومما لا شك فيه أن عوائق الاستيراد المتعددة تؤثر على استيراد الكثير من تلك الخامات والمستلزمات مما يؤثر سلبا على الطاقة الحقيقة للإنتاج المحلى. من ناحية أخرى، فإن التصنيع المحلى يواجه مشكلة كبيرة تتلخص فى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى خاصة فى أوروبا، التى تعتبر الشريك الاقتصادى الأهم لمصر. بالإضافة إلى ذلك، فإن موجة انخفاض العملات عالميا خاصة اليورو تجعل الجنيه أعلى من قيمته الحقيقية، وتقلل من الطلب على الصادرات المصرية.

بناء على ذلك، النهوض بالتصنيع المحلى لإحلال الواردات، يتطلب استراتيجية متوازنة ترتكز على عدة مسارات. الأول: وجود خريطة تنمية صناعية تركز على الصناعات التى تتمتع مصر فيها بميزة تنافسية عالمية والتى لا تعتمد على حماية من المنافسة عن طريق رفع الجمارك. الثانى: عوائق الاستيراد يجب أن تفرض على المنتجات التى لها بدائل واضحة فى السوق المحلى وبجودة مماثلة وبكميات كافية لسد الطلب. الثالث: يجب استثناء المواد الخام من عمليات ترشيد الاستيراد ليس فقط على الورق ولكن على أرض الواقع. وأخيرا: لابد من إتاحة فترة زمنية منطقية للتصنيع المحلى حتى يستطيع إحلال بعض الواردات.

فى وقت تندر فيه موارد الدولة من العملة الصعبة تصبح الخيارات أمام صانع القرار محدودة. التوجه العام لترشيد الاستيراد وتشجيع التصنيع المحلى قد لا يكون عليه خلاف، لكن المعضلة الحقيقة تكمن فى آلية تنفيذه بما لا يؤثر سلبا على توافر المنتجات فى السوق وارتفاع أسعارها.

عمر الشنيطى
5 - فبراير - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"