تم الإعلان أخيرا عن حصول مصر على قرض من البنك الدولى بقرابة ٣ مليارات دولار، والذى حصلت مصر على ثلثه بالفعل، كما تم الإعلان عن قرض آخر من بنك التنمية الأفريقى. بدت تلك الاتفاقات على أنها شهادة ثقة على صلابة الاقتصاد المصرى ومصداقية برنامج الإصلاح الاقتصادى، لكن على صعيد آخر، تعالت الأصوات المتسائلة عن شروط تلك القروض وعن الأثر الاجتماعى لها ومساس تلك الشروط بسيادة الدولة.
أكدت الحكومة على عدم وجود شروط من قبل البنك الدولى، لكن سريعا ما كشف البنك الدولى بنفسه عن الشروط الأساسية لهذا القرض. المؤسسات العالمية ونصائحها وقروضها ستكون ركنا أساسيا من أركان الاقتصاد فى الفترة القادمة، ومن المهم التعرف على طبيعة تلك القروض. فالهدف من المقال ليس الإشادة ببرنامج الإصلاح الاقتصادى أو مهاجمته وليس الاعتراض على قرض البنك الدولى أو تشجيعه، إنما الهدف هو توضيح آلية عمل مثل هذه القروض.
إذا أرادت دولة الحصول على تمويل من المؤسسات العالمية، فإنها تقوم بالاستعانة بفريق استشارى لرسم برنامج إصلاح اقتصادى وعادة ما يُستعان بالفريق الاستشارى للبنك الدولى لتقديم الدعم الفنى لسببين. أولا: خبرة ذلك الفريق والتى تشكلت عبر الكثير من تجارب الإصلاح الاقتصادى التى أشرف عليها البنك حول العالم، والتى استقى منها الكثير من الدروس، سواء من تجارب النجاح أو الفشل. ثانيا: اشتراك الفريق الاستشارى للبنك فى وضع برنامج الإصلاح الاقتصادى يجعل من البديهى حصول الدولة على القرض من البنك الدولى فى النهاية. بناء على الخطة النهائية المقدمة يقوم الفريق المسئول عن التمويل بفحص الخطة المالية. كما يقوم بوضع بعض الشروط لضمان التزام الدولة الطالبة للتمويل بالخطة المالية المقدمة. بالإضافة لذلك اشتراك البنك الدولى فى وضع خطة الاصلاح الاقتصادى، يعطى الكثير من المصداقية لدى المؤسسات العالمية الأخرى، ويسهل عملية الحصول على التمويل.
ولعل الآلية السابق ذكرها، تعكس تجربة مصر إلى حد كبير، حيث قدم البنك الدولى فى السنوات الثلاث الأخيرة، الكثير من الدعم الفنى لبرنامج الإصلاح. مع بداية المرحلة الانتقالية الثانية فى منتصف ٢٠١٣، كان من الواضح حاجة الاقتصاد لبرنامج إصلاح متكامل، وهو ما وضعته الحكومة بالاستعانة بخبرات البنك الدولى والعديد من المؤسسات العالمية الأخرى، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية. الأول: خفض عجز الموازنة المتصاعد. الثانى: توفير مصادر مستدامة للطاقة. والثالث: تحسين بيئة الاستثمار. وقد عملت الحكومة خلال العامين الماضيين على تنفيذ ذلك البرنامج عن طريق تخفيض دعم الطاقة وتخفيض بند الأجور المستقبلى من خلال إصدار قانون الخدمة المدنية الذى اعترض عليه البرلمان، وكذلك إصدار قانون الاستثمار وعقد مؤتمر اقتصادى كبير العام الماضى.
على الرغم من اشتراك البنك الدولى فى وضع برنامج الإصلاح الاقتصادى، الذى يراه البعض برنامجا إصلاحيا بينما يراه البعض الآخر تقشفيا، وشروع الحكومة فى تطبيقه إلا أن الحكومة لم تلجأ للاقتراض من البنك الدولى إلا أخيرا، حيث إن الدعم الخليجى السخى الذى تدفق على مصر منذ منتصف ٢٠١٣ وحتى بداية ٢٠١٥ كان قادرا على سد الفجوة التمويلية واحتياجات مصر من الدولار. لكن خلال ٢٠١٥ تغير الوضع حيث تراجعت أسعار البترول، مما خفض من قدرة الخليج على دعم الاقتصاد المصرى وكذلك تراجعت إيرادات السياحة بعد سقوط الطائرة الروسية. كما أن الفجوة بين الواردات والصادرات قد اتسعت فى وقت أصبح الجنيه المصرى مرتفعا مقارنة بالعديد من العملات الأجنبية، بينما لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية كما كان متوقعا نتيجة الاضطراب السياسى والأمنى من ناحية إلى جانب وجود بوادر لأزمة اقتصادية عالمية جديدة، مما أدى لوجود فجوة تمويلية كبيرة لدى الحكومة وضغط هائل على الجنيه المصرى، ولذلك توجهت الحكومة للمؤسسات العالمية طلبا للتمويل.
برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى قدمته الحكومة للبنك الدولى ليس وليد اللحظة والحكومة بالفعل تعمل على تنفيذه منذ ٢٠١٤. لكن فى المرحلة السابقة اعتمدت الحكومة بشدة على الدعم الخليجى الذى لم يكن مشروطا بإصلاحات اقتصادية مباشرة إلا أنه بلا شك يأتى بتكلفة سياسية سنحتاج تسديدها فى مرحلة ما. الآن وقد تراجع الدعم الخليجى وبدأت مرحلة التمويل من المؤسسات العالمية، فإن تلك المؤسسات لديها من الحكمة ما يكفى لتضع شروطا تلزم مصر، كما هو الحال مع أى دولة مقترضة، بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التى قدمتها فى خطتها لضمان استدامة الوضع المالى وقدرة الاقتصاد على سداد الديون المستحقة لاحقا.
برنامج الإصلاح الاقتصادى ليس جديدا واشتراطات البنك الدولى على الحكومة المصرية وإلزامها بتنفيذ الإجراءات التى عرضتها فى خطتها ليس غريبا، هكذا تسير الأمور إذا أرادت الدولة الحصول على قروض. لا يعنى ذلك بطبيعة الحال أن برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى وضعته الحكومة هو الأفضل، على العكس من ذلك، فهناك الكثير من علامات الاستفهام خاصة على الأثر الاجتماعى لمثل هذه الإجراءات والتى تؤدى لارتفاع الأسعار بشكل كبير وهو ما رصدته بالفعل الإحصاءات الرسمية. ولعل تحرك الدولة منذ عدة شهور لإطلاق مبادرات لتخفيض الأسعار بالاشتراك مع وزارة التموين والمؤسسات السيادية خير دليل على الأثر التضخمى الكبير لتلك السياسات التى تؤثر سلبا على المجتمع حتى مع برامج الضمان الاجتماعى التى تم إطلاقها بشكل احترازى، لكن الواقع أن الأثر السلبى لتلك السياسات أكبر بكثير.
المؤسسات المالية العالمية تلعب الآن دورا كبيرا فى المشهد الاقتصادى المصرى بعد تراجع الدعم الخليجى. نحصل على قروض كبيرة الآن قد تعطى شهادة اقتصادية وتساهم فى حل أزمة الدولار، لكن سيتحمل المجتمع تكلفة اجتماعية كبيرة نتيجة الإصلاحات الاقتصادية المشروطة، كما ستحتاج الأجيال القادمة سداد تلك القروض ولذلك يجب أن تؤخذ تلك الأمور على محمل الجد. العلاقة لا يجب أن ينظر لها على أنها علاقة خضوع، فالمصلحة مشتركة بين البنك الدولى ومصر. لكن أيضا ليس من المنطق إنكار وجود شروط للقرض بل يجب الإفصاح عن تلك الشروط وعرضها على المجتمع، لمناقشتها ثم اعتمادها من مجلس النواب، مع الأخذ فى الاعتبار الأثر الاجتماعى والسياسى لتلك الإصلاحات الحرجة.
عمر الشنيطى
19- فبراير - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment