Friday, February 5, 2016

معضلة ترشيد الاستيراد وتشجيع التصنيع المحلى

فى ظل تأزم الوضع الاقتصادى، تتعالى الأصوات التى تنادى بضرورة تقليص الواردات وزيادة الصادرات وتشجيع التصنيع المحلى. من الصعب وجود خلاف على هذا التوجه، حيث إنها أهداف سينتج عن تحقيقها زيادة معدلات الإنتاج المحلى وانخفاض البطالة، كما سينتج عنها زيادة فى صافى العملة الصعبة المتوفرة فى الاقتصاد، مما يقلل الضغط على الجنيه. لكن تحقيق تلك الأهداف ليس سهلا، وقد يؤدى التعجل فى الوصول لها إلى آثار سلبية على الاقتصاد.

تواجه مصر عجزا مستداما فى الميزان التجارى للسلع، حيث إن ما تستورده من منتجات دائما ما يفوق ما تصدره. وقد شهدت الفجوة بين الواردات والصادرات زيادة كبيرة، فبعد أن كان العجز قرابة ١٠ مليارات دولار فى منتصف العقد الماضى، ارتفع العجز ليصل لقرابة ٤٠ مليار دولار فى العام الماضى، وأصبحت الواردات تمثل ثلاثة أضعاف الصادرات السلعية. فى الوقت نفسه، تراجعت المنح والقروض والاستثمارات الأجنبية وكذلك إيرادات السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج، والتى كانت دائما ما تغطى هذا العجز، مما زاد من حدة الضغط على الجنيه، وأدى لوجود سوق موازية للعملة.

العلاج التقليدى فى تلك الأحوال هو تخفيض الجنيه لتشجيع الصادرات والسياحة وخفض الواردات، لكن التصور المعتمد الآن أن المزيد من التخفيض سيزيد من التضخم، الذى يفاقم الوضع الاجتماعى بينما الاستثمارات الأجنبية ليس من المتوقع أن ترتفع مع التخفيض، نتيجة الأوضاع السياسية وكذلك تباطؤ الاقتصاد العالمى، وينطبق ذلك أيضا على السياحة التى تراجعت نتيجة الأعمال الإرهابية. لذلك أصبح التوجه يتمحور حول تخفيض فاتورة الاستيراد، مما يزيد الطلب على المنتج المحلى ويقلل الضغط على الجنيه.

بناء على ذلك، قامت الحكومة بتطبيق قواعد جديدة تشترط تسجيل المصانع التى تقوم بتصدير منتجاتها لمصر لدى هيئة الرقابة على الصادرات والواردات المصرية، وقبول المصنع الأجنبى بالتفتيش من فريق فنى، للتأكد من استيفاء معايير البيئة وسلامة العمل. كما تم رفع الجمارك على عدد كبير من المنتجات بنسب متفاوتة. فى الوقت نفسه، قام البنك المركزى خلال العام الماضى، بوضع سقف لإيداع الدولار فى البنوك، والذى تم زيادته أخيرا على بعض السلع الأساسية، لتخفيض المضاربة على العملة وتقليص استيراد المنتجات غير الأساسية، طبقا لمعايير البنك المركزى الذى تولى مسئولية تدبير العملة واشترط أيضا أن تمر عمليات الاستيراد بالكامل من خلال البنوك المحلية وبالتنسيق مع بنك الشركة المصدرة، وأن يتم دفع كامل سعر المنتج المستورد قبل استيراده، مما يلغى الحد الائتمانى الذى يمنحه المصدر الأجنبى للمستورد المصرى.

وترى الدولة، أن تلك الإجراءات تهدف لتنظيم عملية الاستيراد والحد من استيراد البضائع رديئة المستوى والمنتجات الاستفزازية وكذلك الحد من التهرب الجمركى بمطابقة فواتير الواردات بين تحويلات البنوك ومصلحة الجمارك، مما يؤدى إلى الارتقاء بجودة المنتجات المعروضة فى السوق، وتشجيع المنتج المحلى ليحل محل المنتجات المستوردة. لكن المستوردين يرون فى تلك الإجراءات قتلا صريحا لقطاع الاستيراد ومن يعمل به، حيث إن تسجيل المصانع يصب فى مصلحة الشركات العالمية، التى ستستطيع الوفاء بذلك الشرط، أما الكثير من المصانع الصغيرة خاصة فى الصين فستخرج من السوق، وهو ما سيؤثر سلبا على توافر منتجات مستوردة منخفضة السعر كانت تخدم شريحة كبيرة.

ويرى المستوردون أيضا، أن قرارات البنك المركزى ستؤدى إلى تقليص حجم الواردات، بسبب عدم توافر العملة الصعبة، مما يؤدى إلى انخفاض المعروض فى السوق. كما أن اشتراط دفع كامل التكلفة يزيد من العبء التمويلى على المستوردين والذين بدورهم سيقومون برفع أسعار المنتجات المستوردة. عدم توافر المنتجات وارتفاع تكلفة الاستيراد وارتفاع الجمارك، ينعكس بطبيعة الحال على ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، والتى يعتبر الكثير منها أساسية. فعلى الرغم من تسليط الضوء دائما على أن مصر تستورد الكثير من السلع الاستفزازية، إلا أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن أغلب ما تستورده مصر تعتبر منتجات أساسية من مواد بترولية ومواد خام ومنتجات غذائية ومعدات وأجهزة يصعب الاستغناء عنها، وأن السلع غير الأساسية نسبة محدودة من إجمالى فاتورة الاستيراد البالغة ٦٠ مليار دولار.

لا أحد يختلف على أهمية التصنيع المحلى وضرورة تشجيعه، لكن من الصعب أن يستطيع التصنيع المحلى ملء الفجوة الناتجة عن تقليص التصدير بين عشية وضحاها، حيث إن زيادة التصنيع المحلى يتطلب فتح مصانع جديدة، وهو ما يتطلب فترة زمنية قد تصل لسنة وربما أكثر فى بعض الصناعات. التصنيع المحلى أيضا ليس منعزلا عن العالم الخارجى، حيث يعتمد على الكثير من المواد الخام ومستلزمات الإنتاج المستوردة، ومما لا شك فيه أن عوائق الاستيراد المتعددة تؤثر على استيراد الكثير من تلك الخامات والمستلزمات مما يؤثر سلبا على الطاقة الحقيقة للإنتاج المحلى. من ناحية أخرى، فإن التصنيع المحلى يواجه مشكلة كبيرة تتلخص فى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى خاصة فى أوروبا، التى تعتبر الشريك الاقتصادى الأهم لمصر. بالإضافة إلى ذلك، فإن موجة انخفاض العملات عالميا خاصة اليورو تجعل الجنيه أعلى من قيمته الحقيقية، وتقلل من الطلب على الصادرات المصرية.

بناء على ذلك، النهوض بالتصنيع المحلى لإحلال الواردات، يتطلب استراتيجية متوازنة ترتكز على عدة مسارات. الأول: وجود خريطة تنمية صناعية تركز على الصناعات التى تتمتع مصر فيها بميزة تنافسية عالمية والتى لا تعتمد على حماية من المنافسة عن طريق رفع الجمارك. الثانى: عوائق الاستيراد يجب أن تفرض على المنتجات التى لها بدائل واضحة فى السوق المحلى وبجودة مماثلة وبكميات كافية لسد الطلب. الثالث: يجب استثناء المواد الخام من عمليات ترشيد الاستيراد ليس فقط على الورق ولكن على أرض الواقع. وأخيرا: لابد من إتاحة فترة زمنية منطقية للتصنيع المحلى حتى يستطيع إحلال بعض الواردات.

فى وقت تندر فيه موارد الدولة من العملة الصعبة تصبح الخيارات أمام صانع القرار محدودة. التوجه العام لترشيد الاستيراد وتشجيع التصنيع المحلى قد لا يكون عليه خلاف، لكن المعضلة الحقيقة تكمن فى آلية تنفيذه بما لا يؤثر سلبا على توافر المنتجات فى السوق وارتفاع أسعارها.

عمر الشنيطى
5 - فبراير - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

No comments:

Post a Comment