«النيوليبرالية» هى توجه اقتصادى يقضى بتقليص دور الحكومة فى الاقتصاد ورفع الدعم وتخفيض الإنفاق الحكومى العام لتقليل عجز الموازنة والدين الحكومى وتحرير أسواق السلع والخدمات من قوانين حماية المنتجات المحلية وكذلك تعويم سعر الصرف للسماح بتدفق الاستثمارات الأجنبية. أما «العسكرية» هنا فترتبط بتدخل المؤسسة العسكرية فى النشاط الاقتصادى. وبالإشارة للحالة المصرية، فمن الواضح أن ما يتم تداوله عن التوجه الاقتصادى الذى ستنتهجه الحكومة فى الفترة المقبلة محدود مما يؤدى إلى ضبابية المشهد الاقتصادى العام، لكن سيحاول هذا المقال استشراف التوجه المحتمل الذى يبدو أنه سيكون على الأرجح مزيجا من «النيوليبرالية» و»العسكرية» معا.
هناك إشارات متعددة تشير إلى انتهاج الحكومة الجديدة لسياسات «نيوليبرالية» وهى نفس سياسات حقبة مبارك الاقتصادية من تحرير للأسواق وخفض لعجز الموازنة كهدف أساسى للسياسة المالية وجذب للاستثمارت الأجنبية كمحرك رئيسى للنمو لتحسين المؤشرات الكلية للاقتصاد ورفع قدرة مصر على الاقتراض من صندوق النقد الدولى. ومما لا شك فيه أن السيطرة على المؤشرات الكلية ضرورية ولكن هناك إشكالات متعددة فى هذا التصور:
أولا: انتهاج سياسة تقشفية لتحقيق الانضباط المالى وخفض عجز الموازنة كوسيلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية قد أثبتت تجارب دول جنوب شرق آسيا خلال الأزمة الاقتصادية الآسيوية فى أواخر التسعينيات أنه ليس التوجه الأمثل وأنه فى الواقع يزيد من حدة الأزمة وعمقها بدلا من علاجها. وهو ما يؤكد على أهمية التدرج والتوازن بين الأهداف المالية والاجتماعية فى التعامل مع الأزمات الاقتصادية كالتى تمر بها مصر.
ثانيا: الاستثمار الأجنبى هام لتحفيز الاقتصاد وخلق فرص عمل خاصة فى دولة ناشئة اقتصاديا مثل مصر، لكنه ليس المصدر الوحيد للنمو ويجب عدم تضخيم دوره. كما يجب النظر بشكل موضوعى لنوعية الاستثمار الأجنبى. فاستقطاب رءوس أموال للقطاع العقارى وتجميد الأراضى فائدته منخفضة للاقتصاد ولا تقارن بالاستثمارات الصناعية أو الزراعية. ولذلك على الحكومة توجيه الاستثمار الأجنبى للقطاعات الأكثر فائدة للاقتصاد.
ثالثا: النمو الاقتصادى هدف رئيسى، لكن لا يقل عنه أهمية نوع هذا النمو وأثره الاجتماعى من حيث التوظيف وتوزيع الدخل. لذلك يجب أن تلتفت الحكومة إلى ضرورة زيادة الإيرادات الضريبية بشكل متكامل تستطيع من خلاله زيادة الضرائب على الشرائح مرتفعة الدخل وكذلك على الأنشطة الاقتصادية الأقل فائدة للاقتصاد، بينما تقوم بتخفيض الضرائب ومنح المزايا للقطاعات الأكبر أثرا على الاقتصاد.
رابعا: إذا كان التوجه الاقتصادى التحررى الذى تنتهجه الحكومة الحالية هو نفس التوجه الذى ساد قبل ٢٠١١، فكيف للحكومة تصور أن نتائجه ستكون مختلفة عما سبق. فخروج الناس فى الشوارع فى ٢٥ يناير كان من دوافعه سوء الوضع الاقتصادى الذى عانت منه الطبقات الأكثر فقرا، وهو وضع لن يزيده التوجه «النيوليبرالي» الحالى إلا تفاقما.
من المعروف أن أى نظام اقتصادى له من يقوده، ففى النظم الرأسمالية يقوم القطاع الخاص بذلك، بينما فى النظم الاشتراكية تقوم الحكومة بذلك ويتشارك الطرفان فى لعب هذا الدور فى النظم المختلطة. إن تحديد الأدوار فى الاقتصاد أمر حرج حيث إنه يؤثر على توجهات القطاع الخاص. وفى هذا الصدد يظهر دور المؤسسة العسكرية التى دائما ما كانت تلعب دورا فى الاقتصاد غير أن هذا الدور تضخم بشكل كبير فى السنة الأخيرة حيث تم إسناد عقود ضخمة من الحكومة للمؤسسة العسكرية بالأمر المباشر لضمان سرعة وجودة التنفيذ. لكن ذلك التوجه أدى إلى مزاحمة حقيقية من قبل المؤسسة العسكرية للقطاع الخاص. ومن المتوقع أن يستمر دور المؤسسة العسكرية الاقتصادى فى الزيادة مما يزيد من صعوبة وضع القطاع الخاص الذى يعانى من مزاحمة الحكومة له أيضا حيث تعتمد الحكومة على الاقتراض المحلى لتمويل عجز الموازنة مما يحد من قدرة البنوك على تمويل القطاع الخاص. وهذه المزاحمة تؤدى إلى إحجام القطاع الخاص عن لعب دوره فى تحريك الاقتصاد بينما تتصدر المؤسسة العسكرية المشهد الاقتصادى.
وما بين التوجه الاقتصادى التحررى من حيث التقشف وتحرير الأسواق من ناحية وتراجع دور القطاع الخاص مقابل دور المؤسسة العسكرية من ناحية أخرى، يمكن وصف المرحلة القادمة بأنها حقبة «النيوليبرالية العسكرية» .لكن هذا التوجه يناقض بعضه البعض، فالتوجه النيوليبرالى يهدف فى الأساس لخفض دور الدولة فى منافسة القطاع الخاص وهو ما يُفترض أن يؤدى إلى دفع القطاع الخاص للعب دورا أكبر فى الاستثمار وزيادة النمو وخلق فرص عمل جديدة. لذلك حينما تعمل الحكومة على تحرير الأسواق فى الوقت الذى يتضخم فيه بشدة دور المؤسسة العسكرية، فإن التوجه النيوليبرالى وما يرافقه من عناء التقشف لا قيمة حقيقية له لأن القطاع الخاص لن ينهض بدوره فى ظل منافسة غير عادلة مع أكبر مؤسسة فى الدولة.
الخلاصة أن الاقتصاد المصرى مقبل على الأرجح على حقبة «النيوليبرالية العسكرية» من حيث تبنى سياسة تقشفية لتحرير الأسواق لا تختلف عما كان متبعا قبل ٢٠١١. ويرافق هذه السياسية التقشفية بكل ما تحمله من مشقة توسع هائل لدور المؤسسة العسكرية الاقتصادى ومنافسة غير عادلة للقطاع الخاص، مما يشير إلى تعارض السياسات الاقتصادية المختلفة ويتطلب إعادة نظر ممن يحكم مصر.
عمر الشنيطى
28 - يونيو - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"