Saturday, July 20, 2013

٣٠ يونيو: واقع اقتصادي و ثلاثة أسئلة

شهدت مصر عاصفة سياسية يوم ٣٠ يونيو، حيث خرج الملايين معترضين على سياسة النظام ومطالبين الجيش بالتدخل. وما هى إلا ساعات حتى تدخل الجيش معلنا بداية مرحلة انتقالية جديدة.
واختلف المحللون عما إذا كانت ثورة شعبية أم انقلابا عسكريا أم خليطا من هذا وذاك، مما أحدث جدلا كبيرا داخليا وخارجيا. وليس الهدف من المقال الدخول فى ذلك الجدل، بل التحدث عن ما هو آت على الصعيد الاقتصادى.
تزامنت هذه العاصفة مع انفراجة غير مبررة لعدد من الأزمات مثل البنزين والكهرباء، كما تلقت مصر بعدها بساعات حزمة من المساعدات والقروض الميسرة من السعودية والكويت والإمارات تبلغ ١٢ مليار دولار. وقد دفع ذلك البعض للاعتقاد بأن الأزمة الاقتصادية قد انتهت.
لكن واقع الاقتصاد المصرى أكثر تعقيدا من ذلك. فعلى الرغم من كونه اقتصادا متنوعا ولديه قدرة على التعافى إلا أنه يعانى من مشاكل هيكلية تراكمت على مدى عقود، حيث يعانى الاقتصاد من عجز مزمن فى الموازنة بسبب ترهل جهاز الدولة الإدارى وعدم فاعلية منظومة الدعم وارتفاع تكلفة الديون. وقد زادت حدة هذه المشاكل خلال العام الماضى، كما صاحبها تضخم كبير مدفوعا بانخفاض قيمة الجنيه.
لذلك فإن الدعم الخليجى سيلعب دور المسكن، حيث سيعمل على توفير المواد البترولية الرئيسية وزيادة احتياطى النقد الأجنبى مما سيساعد على السيطرة على سعر الصرف، معطيا فرصة للاقتصاد للصمود حتى رجوع السياحة والاستثمارات لسابق عهدها. لكن لا يمكن أن ينهى هذا الدعم الأزمة الاقتصادية والتى تحتاج عملية تحول اقتصادى شامل. ومن ناحية أخرى، هناك ثلاثة أسئلة تطرحها الأحداث الأخيرة:
أولا: هل ما حدث انقلاب أم ثورة؟
لو تم اعتبار ما حدث انقلابا عسكريا فإن احتمالية حدوث انقلاب عسكرى آخر أو ثورة شعبية أو أعمال عنف منظمة تكون مرتفعة بناء على تجارب الكثير من الدول التى شهدت انقلابات من قبل. وهذا التصور من شأنه أن يزيد من مخاطر الاستثمار فى مصر ويدفع التصنيف الائتمانى لمزيد من التدهور مما يؤدى إلى إحجام الاستثمار والتمويل الأجنبى وسيحد من قدرة القطاع السياحى على التعافى.
وسيدفع ذلك مصر لزيادة الاعتماد على المال السياسى وإن تغيرت مصادره. وعلى الرغم من العرفان لكل من يدعم مصر إلا أن الاعتماد على المال السياسى له آثار سياسية سلبية. كما أن هذا الدعم وحده لا يقضى على الأزمة الاقتصادية بل فقط يعطيها مسكنات تزيد من حدة الأزمة على المدى البعيد. أما إذا تم الاعتراف بأنها ثورة شعبية فهذا سيجعل تعافى الاقتصاد أسهل لكن درجة التعافى سترتبط بعوامل أخرى كما سيرد لاحقا.
ثانيا: من سيحكم مصر؟
قد يحكم مصر فلول نظام مبارك أو يحكم العسكر ولو من وراء حجاب أو يظهر نظام جديد يلبى مطالب الحراك الشعبى. فإن كان رجال مبارك، فذلك يعيدنا للدولة البوليسية وكبت الحريات والسيطرة على الاقتصاد من قبل مجموعة قليلة من رجال الأعمال المنتمين للنظام مما يجعل السوق أشبه ما تكون بسوق احتكارية وإن تزينت بسمات الأسواق الحرة ظاهريا.
من المرجح أن يبقى هذا النظام على كثير من موروثات نظام مبارك الاقتصادية فيزيد الدعم لكن تختفى العدالة الاجتماعية الحقيقية ويتزاوج المال بالسلطة من جديد. وهذه السمات من شأنها تقليل المنافسة وتحجيم الأسواق وحجب الاستثمارات الخاصة على حساب المال السياسى والذى لا يؤدى إلى تنمية فعالة. وذلك قد يدفع لحراك شعبى آخر، خاصة بعد أن عرف الناس الطريق للميادين.
أما إذا أفضى الوضع إلى وجود نظام جديد يحقق مطالب الناس ويقوده أصحاب الكفائة من ذوى الخبرة والشباب معا، فإن ذلك من شأنه استيعاب مطالب الناس وإعطاء ثقة للمؤسسات المالية والمستثمرين.
ثالثا: كيف سيكون الاقتصاد؟
قد يتبنى النظام الجديد توجها اشتراكيا أو رأسماليا أو مختلطا يجمع بين الاثنين. وهذا الأمر مهم جدا، فالخروج من وضع الاقتصاد الحرج يحتاج إلى عملية تحول تشمل إعادة هيكلة للجهاز الحكومى ومنظومة الدعم وميزانية الحكومة. قد تحتاج هذه العملية فترة طويلة وسيكون لها تكلفة اجتماعية ومعارضة شعبية، لكن يمكن تنفيذها عن طريق عدة أساليب بناء على تحيزات النظام.
فإذا تبنى النظام توجها اشتراكيا فأخذ يرفع الضرائب ويفرض الكثير من العوائق على القطاع الخاص بينما يزيد من الدعم والرواتب، فإن ذلك سيؤدى إلى تصد كبير من القطاع الخاص لكن ربما يحصل على تأييد شعبى كبير، أما إذا تبنى النظام توجها رأسماليا فأخذ يخفض الدعم والرواتب بينما يزيد من محفزات القطاع الخاص.
فإن ذلك سيؤدى إلى معارضة شعبية واسعة بسبب اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع مما قد يؤدى إلى سقوط النظام. أما إذا تبنى النظام تصورا متوازنا، فربما يستطيع النهوض بالاقتصاد مع استيعاب الأطراف المختلفة.
قد يظن المتابع للأحداث أن إجابات هذه الأسئلة واضحة، لكن سيولة الوضع وتسارع الأحداث تجعل من عدم الحكمة تصور وجود إجابات جازمة، حتى وإن كانت هناك بوادر لا يمكن تجاهلها. ما نعرفه الآن هو أننا لا نعرف على وجه الدقة شكل النظام السياسى والاقتصادى الذى سيتبناه النظام الجديد ومن الواجب الإسراع فى حسم هذه القضايا المحورية.
عمر الشنيطي
20 - يوليو 2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

Sunday, July 7, 2013

الموارد المحلية ثم الاقترض ثم بيع الأصول

لم تكن مصر الدولة الأولى التى تمر بمحاولة تحول اقتصادى للتغلب على مشاكلها الاقتصادية المزمنة حيث مرت دول عديدة من قبل بتحول ديمقراطى عادة ما يواكبه تحول اقتصادى كما حدث فى أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية. ولعل مما يثير الدهشة أن الكثير من هذه الدول لاسيما الدول المحدودة فى مواردها الطبيعية مرت بنفس التسلسل فى تطورها الاقتصادى، يمكن تلخيصه فى ثلاث مراحل بداية من الاعتماد على موارد الدولة مرورا بالاعتماد على الاقتراض وانتهاء بالاعتماد على بيع أصول الدولة.

المرحلة الأولى: الاعتماد على موارد الدولة حيث تأتى القيادات الجديدة بعد التغيرات السياسية الحرجة فتتحدث عن الفساد الذى استشرى لعقود وعن إمكانية توفير هذه الموارد واستخدامها لتمويل برنامج تحول اقتصادى متكامل يحدث طفرة حقيقية فى الدخل وتوزيعه. وعادة ما يتم الحديث عن موارد مهدرة تقدر بالمليارات مما يوحى بأنها تكفى لتمويل برنامج التحول الاقتصادى بدون الحاجة لعلاج جذرى للمشاكل الاقتصادية الهيكلية.

لكن سرعان ما تتبدد هذه الأحلام بعد الاصطدام بالواقع المرير بسبب المبالغة فى تقدير حجم الموارد المهدرة والأهم بسبب عدم الخبرة فى إدارة مؤسسات الدولة بل والتصدى للتغيير من داخل هذه المؤسسات فى بعض الأحيان. لكن بعض الدول استطاعت الاعتماد على مواردها بسبب كثرة هذه الموارد أو بسبب قدرة الحكام الجدد على إعادة هيكلة الجهاز الحكومى واستغلال تلك الموارد. وإن لم تستطع الدولة فعليها الانتقال للمرحلة الثانية.
  
المرحلة الثانية: الاعتماد على الاقتراض وخاصة الخارجى حيث يتصور الحكام أن الدولة لديها القدرة على النهوض من كبوتها وتحقيق نمو اقتصادى مستدام لكن تحتاج إلى دفعة قوية من التمويل حتى يتم تدوير عجلة الإنتاج. ويعتقد الحكام أن العالم سيقبل على تمويلهم لكن سرعان ما يكتشفوا أن المؤسسات المالية الخاصة ترى مخاطر جمة فى تمويل هذه الدولة فى ظل وضعها الاقتصادى المعقد وتطالبها بتبنى برنامج إصلاح اقتصادى شامل يشرف على تنفيذه مؤسسة دولية مستقلة مثل صندوق النقد.

تدخل صندوق النقد دائما يكون أصعب مما يظنه الحكام حيث يطالب الصندوق بإجراءات جذرية غير شعبوية عادة ما يصعب تطبيقها خاصة فى حالات عدم الاستقرار وينتهى الوضع مع الصندوق بعدم الإتفاق أو بإتفاق لا يتم تنفيذه. لكن بعض الدول استطاعت الاعتماد على الاقتراض بسبب قدرة الحكام الجدد على تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادى حقيقى. وإن لم تستطع الدولة فعليها الإنتقال للمرحلة الثالثة.
  
المرحلة الثالثة: الاعتماد على بيع أصول الدولة سواءا للمستثمرين المحليين أو الأجانب حيث تزداد الحاجة لتمويل عجز الموازنة المتصاعد وتأمين الحاجات الأساسية للشعب. لكن بسبب حرج الوضع الاقتصادى تحجم المؤسسات عن التمويل عن طريق الاقراض وتفضل الحصول على أصول مقابل التمويل لضمان حقوقها فى حالة تردى الوضع الاقتصادى. وعادة ما يأتى بيع الأصول كآخر خيار نظرا لحساسيته. وعلى الرغم من الصورة الذهنية السلبية لبيع الأصول إلا أنه ليس بالضرورة سلبيا.

فإذا نظرنا إلى بيع الأصول نجد أنه قد يأخذ شكل بيع مباشر للأصول أو شكل خصخصة لشركات القطاع العام أو شكل تخصيص أراضى فى مدن عمرانية وصناعية جديدة أو فى شكل شراكة بين القطاع الخاص والعام لتنمية بعض المشروعات أو شكل إصدار سندات أو صكوك بضمان إيراد بعض الأصول والمشروعات أوغيرها من الأشكال.

قد يطال بيع الأصول قطاعات مختلفة منها ما هو استراتيجى للدولة ومنها ما هو أقل أهمية من حيث الأثر على الأمن القومى والنمو الاقتصادى. وقد يحدث بيع الأصول فى ظروف اقتصادية وسياسية مستقرة مما يتيح شروط جيدة فى عملية البيع. لكن على النحو الآخر فى ظل الظروف الحرجة، قد يتم البيع بشروط مجحفة. لذلك يجب الحكم على بيع الأصول بتعمق عن طريق النظر فى نوع الأصل وشكل البيع وتوقيته وشروطه.
  
إذا نظرنا لمصر منذ ٢٠١١ خاصة فى العام الأخير نجد أن الاقتصاد تدرج من الاعتماد على موارد الدولة والذى لم ينجح بسبب المبالغة فى تقدير حجم الموارد المهدرة وعدم الخبرة من ناحية والتصدى للتغيير من ناحية أخرى مما دفع بالاقتصاد للاعتماد على الاقتراض والذى تم التوسع فيه داخليا بشكل كبير وخارجيا من الدول الحليفة. لكن لم يتم الاتفاق مع صندوق النقد مما أضعف من قدرة مصر على الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية المختلفة.  وقد دفع ذلك بمصر إلى بداية طريق بيع الأصول والذى أصبح لا مفر منه بسبب الوضع الاقتصادى الحرج من حيث ارتفاع عجز الموازنة وتسارع مستوى الدين الداخلى والخارجى. وسيعتمد بيع الأصول والحكم عليه بناء على الوضع السياسى العام وسرعة تدهور الاقتصاد وشكل بيع الأصول المتبع. 

والآن تقف مصر على مفترق طرق لا يُعرف نهايته بالتحديد وقت كتابة المقال، لكن سيؤدى بلا شك إلى دخول الاقتصاد المصرى فى وضع أكثر حرجا فى الفترة القادمة يصعب فيه الاعتماد على موارد الدولة كما أن فرص الاقتراض الخارجى قد تكون معدومة مما يجعل بيع الأصول هو التوجه المتاح بصرف النظر عمن بيده زمام الحكم على المدى القصير.


عمر الشنيطي
7-يوليو-2013
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"