سبق أن تناولت فى المقال السابق أن المساواة فى توزيع الدخل لم تعد مطلبا لليسار وحده حيث إنها أصبحت مطلبا عاما وذلك بعد الأزمة المالية العالمية وما أعقبها من تشكيك فى النظام الاقتصادى الحالى، الأمر الذى دفع مؤسسات مثل صندوق النقد الدولى للحديث عن الحاجة لإعادة النظر فى توزيع الدخل بشكل عادل بعد أن أدركت أن عدم المساواة المبالغ فيها لا يمثل فقط تحديا اجتماعيا وسياسيا بل أيضا تحديا اقتصاديا يعيق جهود التنمية المستديمة. كما أوضحت العديد من الدراسات أن إعادة توزيع الدخل ليس لها بالضرورة أثرا سلبيا كليا على الاقتصاد حيث إن الأثر السلبى على الأغنياء يعوضه التحسن فى وضع محدودى الدخل.
وبعد مرور ثلاث سنوات على الثورة المصرية، ازداد الغنى غنى والفقير فقرا. ومع تقشف الحكومة الحالى، فإن الركود التضخمى أصبح لا مفر منه مما سيكون له بالغ الأثر على الفئات الأكثر فقرا فى ظل غياب شبكة أمان اجتماعى متكاملة. ويأتى هذا المقال كتلخيص للدروس المستفادة من الدراسات العالمية فى مجال إعادة توزيع الدخل والإشارة للسياسات التى يمكن انتهاجها فى المرحلة القادمة من أجل تبنّى أجندة اقتصادية متوازنة تتمحور حول نمو اقتصادى موجه يصاحبه توزيع فعال للدخل. فالتركيز على النمو وحده سيؤدى إلى زيادة الفجوة فى توزيع الدخل وتعميق الفقر فى المجتمع، بينما التركيز على توزيع الدخل وحده سيكبل قدرة الاقتصاد على النمو.
فعلى صعيد النمو، دائما ما يتم تسليط الضوء على إجمالى النمو بدون النظر إلى مكونات ذلك النمو ومدى استدامته وأثره على مستويات التوظيف. لذلك فإن تنبى نمو موجه سيؤدى إلى نمو مستديم ومتوائم مع السياسة التقشفية وقد يشمل عدة سياسات رئيسية:
أولا: تبنى سياسة تحفيزية للقطاعات ذات القيمة المضافة وشديدة الاعتماد على الأيدى العاملة فى صورة دعم مالى للصادرات أو حوافز ضريبية أو حوافز تمويلية. فالسياسة التقشفية لا يجب أن تشمل كل القطاعات الاقتصادية.
ثانيا: الحد من مزاحمة الحكومة والمؤسسة العسكرية للقطاع الخاص وإتاحة المجال للقطاع الخاص لتحريك عجلة الاقتصاد حتى لا يصاب بركود مزمن.
ثالثا: توجيه الاستثمار الأجنبى للقطاعات ذات القيمة المضافة والبعد عن الاستثمار العقارى والتجارة فى الأراضى التى لا تضيف قيمة كبيرة للاقتصاد.
رابعا: إعادة هيكلة شركات قطاع الأعمال من أجل الحفاظ على فرص العمل وتوفير المزيد منها وكذلك ضبط الأسعار فى الأسواق.
خامسا: ربط الدعم المقدم للأسر باستكمال أولادهم للتعليم أو المتابعة الصحية لضمان حصولهم على الفرص المناسبة للنمو والترقى فى المجتمع.
وتهدف هذه السياسات المقترحة لضمان التركيز على تنمية القطاعات ذات الأثر الإيجابى والمستدام اقتصاديا وإجتماعيا فى ظل الوضع الاقتصادى الحرج .
أما على صعيد توزيع الدخل، فإن توسيع القاعدة الضريبية واستخدام الضرائب كأداة لتوجيه النشاط الاقتصادى ــ من استهلاك واستثمار- وليس فقط كمصدر للإيرادات الحكومية تعد من الأهداف الرئيسية التى يجب تبنيها فى هذا الصدد وقد يشمل ذلك عدة سياسات رئيسية:
أولا: رفع الحد الأدنى للأجور إلى مستوى ٧٠ ـ ٨٠٪ من متوسط الدخل الحقيقى مما سيؤدى إلى مساعدة الطبقات محدودة الدخل على تحمل تبعات المرحلة القادمة. ويجب تطبيق ذلك على القطاع العام والخاص بالتنسيق مع النقابات المختلفة.
ثانيا: تبنى ضريبة تصاعدية على الدخل تشمل ضريبة منخفضة على مستويات الدخل المنخفضة بينما ضريبة أكثر ارتفاعا من المستوى الحالى على مستويات الدخل المرتفعة.
ثالثا: تطبيق الضريبة العقارية وتوسيع نطاقها لتشمل الأراضى المجمدة وغير المستغلة مما يؤدى إلى محاربة ظاهرة تجميد الأراضى ويعمل على تحريك سوق العقارات والإنشاءات.
رابعا: إعادة هيكلة الضريبة على أرباح الشركات ليتفاوت مستواها بناء على نوعية القطاع مما يؤدى إلى تحفيز القطاعات ذات القيمة المضافة والأولوية الكبيرة للاقتصاد.
خامسا: توسيع تطبيق الضريبة على الأرباح الرأسمالية لتشمل الاستثمارات المالية وقد يتفاوت مستوى الضريبة بناء على طبيعة القطاع ومساهمته فى الاقتصاد.
سادسا: تطبيق ضريبة على الميراث تشمل حدا مرتفعا للإعفاء حيث يتم تطبيق الضريبة على مستويات المواريث شديدة الارتفاع وعلى أن تكون الضريبة المطبقة فى البداية منخفضة.
سابعا: توجيه ضريبة الاستهلاك ــ سواء كانت فى صورة ضريبة مبيعات أو ضريبة قيمة مضافة ــ لتتفاوت طبقا لطبيعة المنتج ومستوى الاستهلاك لتوجيه نمط الاستهلاك.
ثامنا: توسيع القاعدة الضريبية بالعمل على ضم القطاع غير الرسمى فى الحصيلة الضريبية وعلى أن يبدأ ذلك بضرائب منخفضة للقطاعات حديثة الضم.
تاسعا: محاربة التهرب الضريبى بالتنسيق مع البنوك وفرض غرامات مرتفعة على المتهربين ضريبيا.
عاشرا: العمل على إيجاد نظام لرصد وتحليل ونشر بيانات الحصيلة الضريبية وطريقة صرفها على الخدمات المختلفة بشفافية لبث الثقة فى نفوس المواطنين وربط الضريبة المحصلة بالخدمات المقدمة.
وتعتبر النقاط السابقة تلخيصا للدروس المستفادة من الدراسات العالمية فى صدد إعادة توزيع الدخل يمكن تبنيها كأجندة من السياسة المالية فى المرحلة القادمة وتطبيقها على سنوات عديدة للعمل على توزيع الدخل بشكل فعال بالتوازى مع نمو موجه ومستدام.
الخلاصة أن الأجندة الاقتصادية المثلى فى الفترة القادمة يجب أن تتمحور حول تبنى سياسة نمو اقتصادى موجه يصاحبها سياسة توزيع فعال للدخل لتحقيق نمو اقتصادى عادل ومستدام.
عمر الشنيطى
31 - مايو - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"