Saturday, May 17, 2014

المساواة فى توزيع الدخل لم تعد فقط مطلبًا لليسار

لعقود طويلة ظلت المساواة فى توزيع الدخل مطلب التيار اليسارى، بينما كان التيار اليمينى يسخر من مثل هذه المطالب. لكن برز مؤخرا اتجاه عالمى يعترض على التفاوت فى توزيع الدخل، ويعتبر عدم المساواة المبالغ فيها ليست فقط تحديا اجتماعيا وسياسيا بل أيضا تحديا اقتصاديا. واللافت للنظر أن هذا الاتجاه يعتبر ظاهرة عالمية تدعمها مؤسسات كبيرة أبعد ما تكون عن اليسار مما جعل المساواة فى توزيع الدخل مطلبا عاما لا يقتصر على تيار بعينه.

وهذا التغير يمكن إرجاعه لعدة أسباب: السبب الأول يعود للأزمة المالية العالمية والتى شككت فى النظام الاقتصادى السائد وعدم عدالته حيث تدخلت الحكومات باستخدام أموال دافعى الضرائب لإنقاذ القطاع المالى مما أدى إلى ظهور حركة «احتلال وال ستريت» المعترضة على القطاع المالى وحوافز مديرى البنوك.

أما السبب الثانى فيرجع إلى العديد من تقارير صندوق النقد الدولى والتى أكدت أن الفجوة الكبيرة فى توزيع الدخل تعتبر عائقا حقيقيا لجهود التنمية المستدامة عالميا. وعلى الرغم من كون المساواة المبالغ فيها غير محبذة حيث إنها تزيل الحافز على العمل والإبداع، فإن عدم المساواة المبالغ فيها غير مقبولة أيضا حيث أنها تعيق التنمية وتمنع الفقراء من الحصول على الموارد المطلوبة لتحسين أحوالهم. وكما أوضحت التقارير أن إعادة توزيع الدخل بتوسيع القاعدة الضريبية ورفع الضرائب ليس لها بالضرورة أثرا سليبا كليا حيث إن الأثر السلبى على الأغنياء يعوضه التحسن فى وضع محدودى الدخل.

أما السبب الثالث فيتعلق بتقارير نشرتها مؤسسات دولية حيث أصدرت مؤسسة «أوكسفام» البريطانية تقريرا يوضح غياب ثقة الأفراد فى عدالة النظام الاقتصادى حيث يسيطر ١٪ من السكان على نصف الثروة عالميا، كما أن النصف الأقل دخلا من السكان يملكون ثروة تساوى ما يملكه أغنى ٨٥ شخصا فقط فى العالم. كما أشار عدد من المقالات فى مجلات مثل الإيكونومست إلى نفس الأمر وطالبت الحكومات باتخاذ إجراءات حاسمة لإعادة توزيع الدخل. بينما يأتى السبب الرابع متعلقا بكتاب «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» والذى يوضح أن نسبة العائد على رأس المال أعلى من نسبة نمو الاقتصاد مما يجعل الثروة الموروثة تتراكم بشكل أكبر من الثروة التى يحصلها الفرد من عمله. ولذلك يتطلب التغلب على عدم المساواة فى توزيع الدخل إجراءات راديكالية مثل الضريبة على الثروة والميراث.

وقد أطاحت التطورات الأخيرة بعدة ثوابت اقتصادية، فالنظرية تقول إن اقتصاد السوق قادر على خلق فرص العمل وتحسين دخل الأفراد، لكن الواقع أثبت أن الاقتصاد العالمى قد مر بتقلبات شديدة ومتتالية كان لها أثر سيئا على مستويات التوظيف وأدت إلى انخفاض مرتبات الموظفين والعمال كنسبة من الناتج المحلى العالمى فى العقود الأخيرة. كما تقول النظرية أن مرحلة التصنيع يصاحبها زيادة فى عدم المساواة فى البداية لكن سريعا ما تتقلص الفجوة ويجنى محدودى الدخل ثمار التنمية، لكن الواقع أثبت أن الفجوة فى توزيع الدخل قد اتسعت حيث إن أغنى ١٪ من السكان فى أمريكا تضاعف دخلهم فى العقود الثلاثة الأخيرة كنسبة من إجمالى الدخل ولا يقتصر ذلك على أمريكا وحدها. بالإضافة لذلك تقول النظرية أن الأغنياء هم من يتحملون العبء الأكبر للركود الاقتصادى، لكن الواقع أثبت أنه بعد الأزمة المالية العالمية حصل أغنى ١٪ من السكان فى أمريكا على ٩٥٪ من مكاسب تعافى الاقتصاد، كما أن أفقر ١٠٪ من السكان فى اليونان كانوا أكثر الفئات تأثرا بالإجراءات التقشفية التى انتهجتها الحكومة للتعافى. وهذا التباين الشديد بين النظرية والتطبيق دفع الكثيرون من داخل النظام الاقتصادى الحالى للمطالبة بتدخل الحكومات بشكل أكبر لتقليص الفجوة فى توزيع الدخل بعد أن عجز النظام الاقتصادى عن فعل ذلك بشكل تلقائى.

إن هذه التغيرات تعنى الكثير لمصر التى قامت فيها ثورة يأتى على رأس مطالبها العيش والعدالة الاجتماعية حيث لم ينعم محدودو الدخل بثمار النمو الاقتصادى فى السنوات التى سبقت الثورة، بل إن محدودى الدخل هم أكثر الفئات التى دفعت ثمن الركود الذى أعقب الثورة فزادت معدلات البطالة والفقر بشكل كبير بينما لم تتأثر ثروات رجال الأعمال الكبار فى مصر. والآن نستشرف حقبة من الركود التضخمى نتيجة إجراءات الحكومة التقشفية لتقليص عجز الموازنة مما سيكون له بالغ الأثر على الفئات الأكثر فقرا فى ظل غياب شبكة ضمان اجتماعى تحمى الفقراء من العاصفة القادمة. وإذا كان التوجه عالميا هو إعادة توزيع الدخل، فإنه من الأحرى أن يكون ذلك هو التوجه فى مصر فى ظل الوضع الصعب للفئات الأكثر فقرا والتى ستزداد فقرا مع إجراءات الحكومة التقشفية.

الخلاصة أن المساواة فى توزيع الدخل لم تعد مطلبا للتيار اليسارى فقط بل أصبحت مطلبا عاما حتى من داخل التيار اليمينى بعد الأزمة المالية العالمية وما فعلته من تشكيك فى النظام الاقتصادى الحالى وهو ما دفع مؤسسات مثل صندوق النقد الدولى للحديث عن الحاجة لانتهاج سياسات لإعادة توزيع الدخل بشكل عادل بعد أن أدركت أن عدم المساواة المبالغ فيها فى توزيع الدخل لا تمثل فقط تحديا اجتماعيا وسياسيا بل أيضا تحديا اقتصاديا يعيق جهود التنمية المستدامة عالميا. ولهذا التوجه مردود كبير على مصر والتى قامت بها ثورة تطالب بالعدالة الاجتماعية لتحسين أحوال محدودى الدخل، لكن للأسف ساءت أحوالهم منذ الثورة ومن المتوقع أن تزداد سوءا فى الفترة المقبلة مع إجراءات الحكومة التقشفية مما يجعل من الضرورى تبنى قضية المساواة فى توزيع الدخل كمطلب عام لا يقتصر على تيار بعينه.


عمر الشنيطى
17 - مايو - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

No comments:

Post a Comment