الاقتصاد
العالمى أصبح شديد التشابك، إذ أن ما يحدث فى الدول الكبرى يمتد أثره ليشمل باقى
دول العالم. بعض الدول تلعب دورا كبيرا فى توجيه الاقتصاد العالمى، بينما البعض
الآخر يلعب دور المتلقى للصدمات، كما هو حال مصرنا العزيزة.
لم تكن الأعوام الأخيرة من أفضل فترات
الاقتصاد العالمى، حيث شهد أزمة مالية فى ٢٠٠٨ زلزلت العديد من الاقتصادات الكبرى
ودفعتها للدخول فى الركود. استطاعت أمريكا الخروج من تلك الأزمة عبر سياسة تحفيزية
غير تقليدية، بينما قبعت أوروبا فى غياهب الركود حتى الآن. أما الصين فحرصت على
دفع النمو بكل السبل الممكنة، لكن ذلك لم يكن مستداما حتى جاءت اللحظة الفارقة،
وبدأت عوارض الركود الاقتصادى، فخسرت الأسهم الصينية قرابة ثلث قيمتها فى عدة
أسابيع.
هذا الهبوط المفاجئ امتد ليضرب بورصات
أوروبا وأمريكا والتى اجتاحها الذعر، لكن السوق الأمريكية عاودت الصعود سريعا على
خلفية بيانات اقتصادية قوية، تؤكد على صلابة الاقتصاد الأمريكى. على الرغم من
تحذير البعض من أزمة عالمية جديدة مثل ٢٠٠٨، لكنه من الصعب الجزم بذلك الآن. على
كل حال الكثير من الشواهد، تؤكد أن الاقتصاد الصينى سيواجه أزمة عنيفة قد تطول.
وعلى خلفية تلك التقلبات الاقتصادية العالمية يمكن تحديد ثلاثة محاور مختلفة
للتأثير على الاقتصاد المصرى.
المحور الأول يتعلق بأزمة الاقتصاد
الصينى، التى دفعت البنك المركزى الصينى لخفض سعر صرف اليوان، فى محاولة لتنشيط
الاقتصاد بتشجيع الصادرات الصينية، مما يزيد من عجز الميزان التجارى بين مصر
والصين، حيث تستورد مصر من الصين أضعاف ما تصدره لها، وانخفاض اليوان سيزيد من
الطلب على المنتجات الصينية فى السوق المصرى. كما أن تخفيض اليوان قد دفع العديد
من الدول الناشئة لتخفيض عملاتها، للحفاظ على تنافسية صادراتها، وهو ما يضغط على
الجنيه المصرى، لمواكبة هذا النهج بالمزيد من التخفيض، للحفاظ على تنافسية
الصادرات المصرية.
الانخفاض المتوقع فى الجنيه قد لا يؤدى
لزيادة كبيرة فى التضخم هذه المرة، حيث سيقابله انخفاض فى أسعار المنتجات الصينية
المستوردة، ومن ثم تكون المحصلة النهائية هى ارتفاع طفيف فى الأسعار. من ناحية
أخرى، الأزمة الصينية تضع علامات استفهام كبيرة على جاذبية الاستثمار فى الأسواق
الناشئة، فانخفاض عملات تلك الأسواق، سيؤدى لخسائر محققة وهروب رؤوس الأموال
الأجنبية منها. وسيكون لتلك الظاهرة أثر على تأخر تدفق الاستثمارت الأجنبية على
مصر، مما يضعف قدرة الاقتصاد على النمو والحفاظ على سعر صرف الجنيه.
أما المحور الثانى يتعلق بتزامن الأزمة
الصينية مع تباطؤ النمو فى أوروبا، التى تعانى من الركود منذ ٢٠٠٨. ذلك التزامن
سيؤثر على حجم التجارة العالمية، والتى على الأرجح ستشهد تراجعا فى السنوات
القادمة، على غرار ما حدث بعد الأزمة المالية العالمية، حيث انخفضت إيرادات قناة
السويس منذ ذلك الحين، ولم تعد بعد لمستوياتها السابقة. من ناحية أخرى، فإن مشروع
قناة السويس الجديدة والذى تم الانتهاء منه فى سنة واحدة، هو إنجاز من الناحية
الهندسية، بعد أن شكك الكثيرون فى إمكانية ذلك، وبالتأكيد سيصب فى الرصيد السياسى
للنظام الحالى، ويكسبه شرعية الإنجاز.
أما على الصعيد الاقتصادى، فإن هذا
المشروع الذى شمل تعميق وتوسيع المجرى الحالى وحفر مجرى موازٍ، كان من المتوقع أن
يؤدى لزيادة الإيرادات فى البداية، نتيجة زيادة قدرة القناة على استقبال عدد كبير
من السفن العملاقة فى نفس الوقت، وكذلك زيادة سرعة عبور القناة، مما يزيد من
تنافسية القناة كمجرى ملاحى، ويساعد على زيادة رسوم المرور. وبعد الزيادة الأولى
سترتبط زيادة الإيرادات ارتباطا وثيقا بنمو التجارة العالمية. لكن بعد أن ضرب
الركود الصين وأوروبا فى وقت واحد، فإن زيادة إيرادات القناة قد لا تبدو منطقية
الآن، حيث إنه سيكون من الصعب زيادة رسوم المرور، كما أن حجم التجارة العالمية على
الأرجح سيتراجع على المدى القصير.
من الصعب بناء حكم نهائى على إيرادات القناة
على المدى القصير، وقد تظل على وضعها الحالى لفترة ثم ترتفع مع انتعاش الاقتصاد
العالمى. لكن أثر ذلك على شهادات الاستثمار سيكون محدودا، حيث إن إيرادات القناة
بالدولار، بينما فوائد الشهادات بالجنيه. ومع تخفيض الجنيه، تزيد إيرادات القناة
بالجنيه، بينما تظل قيمة الفوائد ثابتة. كما أن نصف ما تم جمعه من شهادات مخصص
لحفر الأنفاق والتى لم تتم بعد، وبالتأكيد يتم استثمارها بشكل ما لتدر دخلا
للقناة، يساعد على سداد فوائد الشهادات على المدى القصير، مع إمكانية إعادة تمويل
الشهادات فى نهاية المدة بإصدار شهادات جديدة أو الاقتراض من البنوك.
بينما يتعلق المحور الثالث بأزمة أسعار
البترول، التى انخفضت بما يزيد عن النصف خلال العام الماضى، مما أثر سلبا على دول
الخليج المصدرة للبترول وتركت موازناتها فى عجز شديد. وعليه فإن الركود فى الصين
وأوروبا سيؤدى لانخفاض الطلب المستقبلى على البترول، مما يؤثر سلبا على قدرة أسعار
البترول على التعافى، والتى من المتوقع أن تقارب ٥٠ــ٦٠ دولارا للبرميل فى
٢٠١٥ــ٢٠١٦. ذلك الانخفاض يساهم فى خفض فاتورة دعم الطاقة، وبالتالى عجز الموازنة
المصرية وهو أمر جيد، لكن على الناحية الأخرى، يضعف من قدرة دول الخليج على
الاستثمار فى مصر، مما يؤثر على معدلات النمو المتوقعة وسعر صرف الجنيه.
قد يتساءل القارئ: «ما هذا الكم من
الأزمات؟» الواقع أن الاقتصاد العالمى أصبح شديد التقلب، مما يضفى بظلاله على
الاقتصاد المصرى الذى سيواجه تحديات بالغة فى الفترة القادمة لم تكن فى الحسبان.
لكن من ناحية أخرى، هناك أخبار إيجابية لم تكن فى الحسبان أيضا، كاكتشاف حقل غاز
كبير فى البحر المتوسط، الذى سيساعد على سد حاجة مصر من الغاز الطبيعى، وإن كان
ذلك سيتطلب بعض الوقت لبداية الإنتاج. وأخيرا ليست كل الأخبار سلبية وحتى الأخبار
السلبية قد تكون سيئة للاقتصاد الكلى، لكنها فرصة جيدة للحكومة، لمراجعة توقعاتها
وبناء تصور أكثر واقعية عن آفاق الاقتصاد على المدى القصير.
عمر الشنيطى
05 - سبتمبر - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment