Saturday, March 8, 2014

عن سياسات البنك المركزي

يدار الاقتصاد من خلال السياسة المالية والتي تديرها وزارة المالية والسياسة النقدية والتي يديرها البنك المركزي، والذي يقوم بذلك من خلال مجموعة من الأدوات يأتي على رأسها التحكم في سعر فائدة الإقراض بين البنك المركزي والبنوك التجارية والذي بدوره يحدد أسعار الفائدة في السوق مثل الفائدة على الودائع والقروض البنكية. وعلى الرغم من وجود أدوات أخرى لدى البنك المركزي، إلا أن التحكم في سعر الفائدة بات هو الأكثر استخداما حيث يعمد البنك المركزي إلى خفض سعر الفائدة حينما يريد تنشيط الاقتصاد، بينما يرفع سعر الفائدة حينما يريد خفض التضخم.

لكن هذه الأداة التقليدية باتت أقل تأثيرا في خضم الأزمة المالية العالمية بعد أن انخفضت أسعار الفائدة عالميا لمستويات متدنية وبالتالي فقدت هذه الأداة قدرتها على تنشط الاقتصاد وكان على البنوك المركزية إيجاد أدوات جديدة والتي جاء على رأسها سياسة التيسير الكمي(Quantitative Easing) ، حيث يقوم البنك المركزي بخلق كمية كبيرة من النقود واستخدامها للإكتتاب فى السندات الحكومية لدفع الإنفاق والاستثمار. وكانت اليابان قد اتبعت هذه السياسة مطلع العقد الماضي في محاولة للخروج من أزمتها الاقتصادية لكنها لم تنجح لأسباب عديدة.

ومع تصاعد حدة الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨، اتجهت البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا للإعتماد على سياسة التيسير الكمي لإنعاش الاقتصاد والذي يراه بعض الاقتصاديين بمثابة طوق النجاة للاقتصاد العالمي للخروج من غياهب الركود، بينما  يرى البعض الآخر أن هذه السياسية بمثابة المسكن محدود الأثر وتساهم في تضخيم حجم الأزمة على المدى البعيد. لكن على كل حال، هذه السياسة تعتبر من أكثر الأدوات إتباعا في السنوات الأخيرة وقد حدث عليها تطويرا كبيرا لتتناسب مع حجم الأزمة الاقتصادية العالمية.

تبنى البنك المركزي المصري سياسة التيسير الكمي مع حلول الأزمة المالية العالمية حيث قام بالتوسع في خلق النقود وشراء السندات الحكومية بصافي ١٣١ مليار جنيه في العام المالي ٢٠٠٨/٢٠٠٩ لسد الفجوة الناتجة عن خروج بعض صناديق الاستثمار الأجنبية من السوق المصري، وهو أعلى مستوى للزيادة السنوية في استثمار البنك المركزي في السندات الحكومية حتى بالمقارنة بسنوات ما بعد الثورة. وبعد ثورة ٢٥ يناير، استمر البنك المركزي في تبني سياسة التيسير الكمي بشكل موسع حتى يستطيع توفير إحتياجات الحكومة التمويلية فزاد استثماره في السندات الحكومية بمتوسط ٨٠ مليار جنيه سنويا، كما هو موضح في الرسم البياني الأول.

أدت هذه السياسية لتضاعف إجمالي استثمار البنك المركزي في السندات الحكومية ثلاثة مرات خلال ستة أعوام ليصل إلى ٦٥٤ مليار جنيه في نهاية العام المالي الماضي. ومع تصاعد عجز الموازنة في الفترة القادمة، فمن المتوقع أن يستمر البنك المركزي في تبني هذه السياسة بشكل موسع. وعلى التوازي، فإن البنوك التجارية في مصر قد زادت استثمارها في السندات الحكومية بشكل ملحوظ منذ الثورة. وعلى الرغم من وجود سيولة جيدة لديها حتى الآن إلا أن زيادة الإعتماد على الإقتراض المحلي سيضع البنوك المحلية في موقف حرج بعد فترة ليست بالطويلة وقد يحتاج البنك المركزي إلى التدخل لإنقاذ هذه البنوك.

ومن المتوقع أن يتدخل البنك المركزي عن طريق أدوات غير تقليدية مثل التسهيلات الإئتمانية الخاصة (Special Credit  Facilities)  والتي يقوم من خلالها بشراء سندات تصدرها البنوك المحلية لتمويل إحتياجاتها ودفعها لتمويل القطاع الخاص وتنشيط الاقتصاد. وفي حالة تصاعد الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على الشركات الكبيرة وقدرتها على الإقتراض، فإن البنك المركزي قد يضطر للتدخل أيضا عن طريق أدوات غير تقليدية أخرى مثل التيسير الإئتماني (Credit Easing) بشراء سندات تصدرها هذه الشركات لتمويل إحتياجاتها. وهذه الوسائل غير التقليدية تم إتباعها من قبل البنوك المركزية في أمريكا واروربا في الفترة الأخيرة.

مثل هذه الأدوات تؤدي بطبيعة الحال لزيادة المعروض من النقد وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم لكن بدون إيجاد حلول حقيقية للمشاكل الهيكلية في المؤسسات التي تحصل على التمويل سواء كانت الحكومة حاليا أو البنوك والشركات الكبيرة مستقبلا. أما الطريق الآخر للتعامل مع الأزمة فهو عن طريق إنتهاج سياسة مالية منضبطة بترشيد النفقات والعمل على زيادة الإيرادات الضريبية على المدى القصير وهو طريق صعب سياسيا وإجتماعيا على المدى القصير وإن كانت نتائجه أكثر إستدامة.

جدير بالذكر أن البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا لم تشرع في استخدام الأدوات غير التقليدية إلا بعد وصول أسعار الفائدة لمستويات متدنية وفقدانها القدرة على تنشط الاقتصاد وكان على البنوك المركزية إيجاد أدوات بديلة. لكن الحالة في مصر مختلفة حيث أن البنك المركزي قد شرع في التيسير الكمي قبل خفض سعر الفائدة والذي ما يزال مرتفعا مقارنة بالمستويات العالمية وهو أحد مواطن الجدل الكبير حول سياسات البنك المركزي.

الخلاصة أن السياسة النقدية التقليدية ترتكز حول إدارة سعر الفائدة من قبل البنك المركزي لتنشيط الاقتصاد وكبح جماح التضخم، لكن الأزمة المالية العالمية أوجدت الحاجة لأدوات جديدة بعد أن انخفضت أسعار الفائدة لمستويات متدنية. وظهرت سياسة التيسير الكمي كأداة تتيح للبنوك المركزية خلق النقود لتمويل إحتياجات الحكومة ولحقها أدوات أخري بعد ذلك. إنتهج البنك المركزي المصري هذه السياسة أيضا منذ الأزمة المالية العالمية وتوسع فيها بعد الثورة لتمويل عجز الموازنة المتفاقم. ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه التوسعي ليشمل أدوات غير تقليدية أخرى وإن كانت هناك علامات إستفهام حول عدم خفض سعر الفائدة المرتفع قبل الإعتماد على الأدوات غير التقليدية. وسيظل الطريق المستدام هو إنتهاج سياسة مالية منضبطة وإن كان ذلك مكلف سياسيا وإجتماعيا.


عمر الشنيطي
8 مارس 2014
نُشر هذا المقال على موقع "مصر العربية"

No comments:

Post a Comment