لا يكاد يخلو مجلس حتى فى المصيف من الحديث عن
الوضع الاقتصادى الحرج. ولا تقتصر الشكوى على محدودى الدخل بل يشاركهم فيها ميسورو
الحال وحتى بعض رجال الأعمال. فلقد سجل التضخم ارتفاعات ملحوظة تقرها الإحصاءات
الرسمية، ومع عوائق الاستيراد المتعددة، تراجع توافر الكثير من المنتجات الأساسية
فى السوق بشكل ملحوظ. وفى خضم صعوبات الحياة اليومية، يزداد سعر صرف الدولار بشكل
هيستيرى حتى أصبح السعر المتداول فى السوق الموازية أعلى بقرابة ٣٠٪ عن السعر
الرسمى، مما يوضح حجم الأزمة ويضفى بظلاله على تراجع رغبة المستثمرين على الاستثمار،
وتفضيل الانتظار حتى تتضح الرؤية السياسية والاقتصادية للحكومة بشكل قاطع.
ما يشعر به الناس من تدهور للوضع الاقتصادى حقيقى وليس مبالغ فيه. من وجهة نظر استراتيجية، يمكن تحديد مشكلتين أساسيتين؛ الأولى مرتبطة بالموازنة العامة والتى حققت معدلات عجز مرتفعة جدا إذا قورنت بالمستهدفات. وإذا أخذنا فى الاعتبار الانخفاض الحاد فى أسعار البترول، والذى ساهم فى خفض بند الدعم، فإن عجز الموازنة الحقيقى يعتبر حرجا، ومن المتوقع أن يستمر العجز فى التفاقم ما لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة. أما المشكلة الثانية فترتبط بعجز الميزان التجارى حيث أصبحت مصر تستورد ثلاثة أضعاف ما تصدره. فى الماضى كان العجز أقل من الوضع الحالى، ولكن الأهم كان تدفق العملة الصعبة من مصادر مختلفة بينما حاليا لا يتوقع زيادة فى إيرادات قناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج فى تراجع كبير مع اشتعال الدولار، بينما الاستثمارات الأجنبية والسياحة متراجعة بسبب الوضع السياسى والأمنى، مما يزيد من حدة أزمة الدولار.
تلك التحديات ليست جديدة على الاقتصاد المصرى، لكن الجديد فى الأمر أن تلك التحديات وصلت لمرحلة حرجة وعلى وشك الخروج عن السيطرة لو لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة. الأعوام الثلاثة الماضية شهدت تغيرات كبيرة؛ ففى البداية اعتمد الاقتصاد على الدعم الخليجى السخى، لسد الفجوة التمويلية، لكن سرعان ما كان على الدولة اللجوء لبدائل أخرى، وهو ما تمثل فى توسع البنك المركزى فى طباعة النقد واستخدامه لشراء السندات الحكومية، لتغطية عجز الموازنة. إن التوجه لطباعة النقد يساهم فى حل تمويل عجز الموازنة، لكن ينتج عنه موجة تضخم كبيرة تفقد الأفراد الثقة فى الجنيه، وتدفعهم للمزيد من المضاربة على الدولار ويفاقم أزمة العملة، حيث لا يستطيع البنك المركزى طباعة الدولار كما يفعل بالجنيه. بمرور الوقت تزداد تكلفة اقتراض الحكومة مع توقع السوق لمزيد من التخفيض للجنيه، مما ينعكس على زيادة بند خدمة الدين وزيادة عجز الموازنة بالتبعية مما يجعل توجه طباعة النقد ليس مستداما ويدخل الاقتصاد فى دائرة مفرغة.
للخروج من الدائرة المفرغة؛ توجهت الحكومة للاقتراض من البنك الدولى وبنوك تنموية أخرى لسد الفجوة التمويلية وبث الثقة فى الأسواق، لكن وضع الاقتصاد الحرج يحتاج لأكثر من ذلك. ويبرز فى هذا الصدد توجه الدولة أخيرا للتنويه والإعلان عن العديد من الإجراءات الاقتصادية الحاسمة كضرائب استهلاكية، ورفع متوقع لأسعار الطاقة وأسعار العديد من الخدمات العامة. بالإضافة لذلك، أجرى محافظ البنك المركزى قبل العيد مباشرة، حوارا تم نشره فى عدة صحف اقتصادية، صرح فيه عن رأيه بأن الدفاع عن الجنيه كان خطأ جسيما، مما دفع الدولار للاشتعال فى السوق الموازية تحسبا لتخفيض محتمل. وبعد ارتفاع الدولار من ١٠٫٩٠ لما يزيد عن ١١٫٥٠ لم يقم البنك المركزى بتخفيض الجنيه حتى وقت كتابة المقال.
يمكن النظر لتصريحات البنك المركزى، على أنها إشارة على تخفيض محتمل للجنيه، وهو ما توقعه البعض لكن النظر لتلك التصريحات بنظرة أشمل والأخذ فى الاعتبار التصريحات الحكومية المتكررة عن إجراءات اقتصادية مرتقبة، تجعل من الأوقع قراءة تصريحات البنك المركزى على أنها إعلان عن برنامج إصلاح اقتصادى متكامل، لضبط الوضع المالى للدولة. ومن المنطقى لجوء مصر لصندوق النقد للحصول على قرض كبير، بما يكفى لتعزيز الاحتياطى وتهدئة السوق الموازية والأهم من ذلك بث الثقة على قدرة الاقتصاد على التعافى. الجدير بالذكر أن مصر قامت برفع حصتها أخيرا فى صندوق النقد، مما يتيح لها زيادة حجم الاقتراض لقرابة ٩ــ١٠ مليارات دولار.
البرنامج المتوقع سيستهدف السيطرة على عجز الموازنة وبناء الثقة فى الاقتصاد والجنيه على وجه الخصوص لتعجيل تدفق العملة الصعبة من خلال أربعة محاور. الأول؛ رفع أسعار الطاقة سواء البنزين أو الغاز للاستخدامات المختلفة ورفع أسعار الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، وكذلك رفع أسعار المواصلات المدعمة مثل القطارات ومترو الأنفاق. المحور الثانى يختص بتطبيق ضريبة القيمة المضافة لزيادة الحصيلة الضريبية ومنع التهرب الضريبى. أما المحور الثالث فيتعلق بإيجاد نظام مرن لسعر الصرف يعكس السعر الحقيقى للجنيه ويوفر العملة الصعبة، مما سيتطلب جهدا كبيرا وطريقة تفكير مختلفة لكن بلا شك سيعنى المزيد من تخفيض الجنيه على المدى القصير، ومن المتوقع أن يقوم البنك المركزى برفع سعر الفائدة لأكثر من مرة مع تلك الإجراءات. وأخيرا المحور الرابع يرتبط بزيادة إيرادات الدولة عن طريق بيع بعض الأصول العقارية غير المستغلة أو الشراكة مع مطورين محليين أو عرب، بالإضافة للاستعانة بشركات أجنبية لخصخصة إدارة بعض الأصول والمرافق.
إن المحاور الأربعة تهدف لزيادة إيرادات الدولة بشكل سريع، مما يساعد على خفض عجز الموازنة لمستويات مستدامة وتغطية تكاليف المرافق العامة بدون خسائر، مما يساعد على تحسين المناخ العام وإحداث استقرار فى سعر الصرف وإيجاد فرص للاستثمار والشراكة مع الدولة، مما يزيد من العملة الصعبة المتدفقة على الاقتصاد. لكن تلك الإجراءات ستؤدى لموجة تضخمية كبيرة جدا أكبر من الموجات السابقة التى ما يزال يشكون منها الناس مما سيكون لها آثار اقتصادية واجتماعية جمة. ومن المتوقع أن يتم الاتفاق على قرض صندوق النقد إذا ما تبنت الحكومة تلك الإجراءات الحاسمة، لكن ليس من المنطقى توقع أن يؤتى برنامج الإصلاح الاقتصادى أثره فى معزل عن تغيير سياسى وأمنى، يضمن تغير مستدام، فالتدهور الاقتصادى مرتبط فى الأساس بالمناخ السياسى والأمنى.
عمر الشنيطى
22 - يوليو - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment