إن الحكومة الحالية فى موقف لا تحسد عليه، فقد ورثت اقتصادا يعانى من مشكلات هيكلية زادت حدتها فى السنوات الثلاث الأخيرة. كما تعانى من وضع انتقالى غير مستقر بعد عزل أول رئيس مدنى منتخب مما خلق معارضة شرسة تشتعل جذوتها فى الجامعات وتعيق الحكومة فى إقرار وضع سياسى مستقر. وتواجه هذه الحكومة اتهامات بالعمالة والأيادى المرتعشة من حلفائها داخليا واتهامات بجرائم حرب خارجيا. كما تغيرت الخريطة الإقليمية أمامها فبعد ما كانت قطر وتركيا هما الملجأ والملاذ، أصبحت السعودية والإمارات يقومان بهذا الدور، خصوصا مع تعذر الاعتماد على صندوق النقد الدولى.
ويتضح أن الحكومة تتعامل مع الوضع على مرحلتين: تبدأ بمرحلة توسعية ثم يعقبها مرحلة انكماشية. وقد بدأت الحكومة منذ توليها السلطة بعد أحداث ٣٠ يونيو انتهاج سياسة اقتصادية توسعية تهدف لزيادة معدلات النمو وخلق فرص عمل جديدة من خلال التوسع فى السياسة المالية بزيادة الإنفاق والاستثمار الحكومى. كما عمل البنك المركزى على تطبيق سياسة نقدية توسعية بخفض سعر الفائدة. تبنى هذه السياسة هو توجه سياسى بالأساس لإنعاش السوق وإحتواء غضب الناس من ضيق الوضع الاقتصادى، لكن هذا التوجه له مخاطر كبيرة من حيث ارتفاع عجز الموازنة وزيادة التضخم.
وللتعامل مع هذه المخاطر، تتبنى الحكومة مجموعة من الإجراءات كالاعتماد على المساعدات الخليجية الكبيرة والتى تتكون من منح وقروض ميسرة ومواد بترولية تعمل بدورها على سد جزء من عجز الموازنة مباشرة، وكذلك تخفيض فاتورة الدعم وتوفير مصادر تمويل بفائدة منخفضة لتقليل بند خدمة الدين. كما أن السياسية النقدية التوسعية واعتماد الحكومة على إصدار أذون خزانة قصير الأجل لتمويل عجز الموازنة يعمل بدوره على خفض سعر الفائدة على الدين الحكومى وبالتالى خفض بند خدمة الدين. بالإضافة لذلك قامت الحكومة بفك وديعة حرب الخليج، والتى تعتبر من خطوط الدفاع الأخيرة للاقتصاد، لسد جزء من عجز الموازنة مباشرة.
وبذلك قد تستطيع الحكومة خفض عجز الموازنة لما دون ٢٠٠ مليار جنيه، أقل من ١٠٪ من إجمالى الناتج المحلى وهو مستوى أقل من عجز العام المالى الماضى والذى وصل إلى ٢٤٠ مليار جنيه، ١٣٫٨٪ من إجمالى الناتج المحلى وكان من المتوقع أن يتفاقم العجز بشكل كبير فى العام المالى الحالى لولا المساعدات الخليجية وفك الوديعة فى الأساس. كما يعمل البنك المركزى على خفض طباعة النقود نسبيا لإحتواء التضخم. وهذه السياسة من المفترض أن تؤدى إلى انتعاش نسبى فى الاقتصاد بدون تأثير سلبى على عجز الموازنة والتضخم.
لكن لا تستطيع الحكومة انتهاج هذه السياسة طويلا بسبب قلة الموارد المحلية واستحالة استمرارية المساعدات الخليجية على هذا النحو. ولذلك من المتوقع أن تغير الحكومة توجهها فى منتصف ٢٠١٤، بعد تمرير الدستور وانتخاب مجلس شعب ورئيس للجمهورية، ليكون التوجه انكماشيا بعض الشىء من أجل السيطرة على عجز الموازنة بشكل مستدام. لذلك من المتوقع انخفاض الاستثمار الحكومى وإعادة هيكلة الدعم. ويفترض أن يبقى البنك المركزى على مستوى سعر الفائدة بدون المزيد من التخفيض وهو ما سيساعد على احتواء التضخم. كما تأمل الحكومة الوصول لاستقرار سياسى وأمنى بحلول منتصف العام يؤدى إلى تحفيز الاستثمار الخاص المحلى والأجنبى ليكون بديلا عن الاستثمار الحكومى فى دفع عجلة النمو والذى سيتأثر إيجابا بانتعاش حركة السياحة التى بدأت فى التعافى.
على الرغم من ذلك، ستظل الحكومة فى حاجة لتمويل على الأرجح من خلال صندوق النقد والذى سيكون الاتفاق معه متاحا بعد وجود مؤسسات منتخبة. كما أن المؤشرات الكلية التى تهدف الحكومة لتحقيقها فى العام المالى الحالى وكذلك الإجراءات التمهيدية لإعادة هيكلة الدعم ستساعد فى التفاوض مع الصندوق. وسيساهم قرض الصندوق فى تمويل احتياجات الحكومة فى العام المالى القادم، والأهم من ذلك سيمنح الاقتصاد شهادة ثقة ستساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية. وهذه السياسة فى المجمل من المفترض أن تعيد الاقتصاد إلى سابق عهده من حيث مستوى النمو والاعتماد على الاستثمارات الخاصة فى دفع عجلة الاقتصاد.
هذه الرؤية تبدو وكأنها الحل السحرى للأزمة الاقتصادية التى كانت ستنفجر لولا المساعدات الخليجية الكبيرة وفك الوديعة، لكنها لا تخلو من المخاطر. فعلى الصعيد الاقتصادى، قد يخرج عجز الموازنة فى العام المالى الحالى عن السيطرة كما حدث فى العام المالى الماضى. كما أن المستثمرين قد يحجمون عن الاستثمار فى مصر لعدة سنوات حتى تستقر الأوضاع سياسيا وأمنيا بشكل تام. وعلى الصعيد السياسى، قد لا تنجح محاولات السيطرة الأمنية خصوصا مع تصاعد حدة المظاهرات فى الجامعات وتزايد مستويات العنف. أما على الصعيد الاجتماعى، فإن قرض الصندوق وما يستتبعه من إجراءات قد تكون لها آثار سلبية على الفئات الأكثر فقرا فى المجتمع والتى تفاقمت مشكلاتها مؤخرا بعد قرار التحفظ على أموال بعض الجمعيات ذات الدور الكبير فى المجتمع.
الخلاصة أن الحكومة فى وضع لا تحسد عليه سياسيا واقتصاديا ومن المتوقع أن تدير الاقتصاد فى ٢٠١٤ من خلال مرحلتين. المرحلة الأولى تعتبر استمرارا للسياسة التوسعية المتبعة منذ ٣٠ يونيو لدفع النمو وإيجاد فرص عمل جديدة بالاعتماد على المساعدات الخليجية الكبيرة ووديعة حرب الخليج. ثم تأتى المرحلة الثانية بعد استكمال المؤسسات الدستورية فى منتصف العام بسياسة انكماشية بعض الشىء والاعتماد على قرض صندوق النقد لكسب شهادة ثقة للاقتصاد تشجع الاستثمار الخاص المحلى والأجنبى لدفع عجلة الاقتصاد. هذا التصور قد يبدو سحريا، لكن تواجهه العديد من التحديات على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى، مما يجعل ٢٠١٤ عام الرهان الاقتصادى الأكبر.
عمر الشنيطي
4 يناير 2014
No comments:
Post a Comment