Saturday, December 13, 2014

عن المخرج من الدائرة المفرغة

بعيدا عن البروباجندا الإعلامية، قد تكون الفترة الأخيرة من أصعب الفترات التى مرت على مصر فى تاريخها المعاصر من حيث تعقيد الوضع العام على مستوياته المختلفة. فى خضم هذا المشهد، يتسائل البعض ما فائدة الحديث عن الاقتصاد؟ وما فائدة النهوض به؟ وهل بالإمكان حدوث نهوض اقتصادى فى ظل هذه الأجواء؟
إن إدارة الدولة لها ثلاثة محاور أساسية: محور سياسى ومحور اقتصادى ومحور اجتماعى، والنهوض بالبلد يتطلب تطوير المحاور الثلاثة. ويهدف المحور السياسى لإيجاد نظام يتيح للمواطنين اختيار من يحكمهم ويتيح للأحزاب المختلفة تبادل السلطة بشكل سلمى ويؤسس لتوازن بين مختلف السلطات. أما المحور الاقتصادى فيهدف لتحقيق معدلات نمو مرتفعة تعمل على خلق فرص عمل فى ظل الحفاظ على مستويات الأسعار. بينما يهدف المحور الإجتماعى لتوزيع الدخل بشكل عادل مع وجود شبكة ضمان اجتماعى توفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين. وهذه المحاور الثلاثة تثير العديد من الأسئلة:

أولا: ما العلاقة بين هذه المحاور؟
هذه المحاور شديدة الترابط والتشابك، والتغيير فى أحدها يؤثر على المحورين الآخرين. فالتوجه الاقتصادى الهادف لخفض الدعم من أجل السيطرة على عجز الموازنة والدين الحكومى له أثر اجتماعى كبير، حيث إن ارتفاع أسعار السلع والخدمات الرئيسية يؤدى إلى زيادة معدلات الفقر بشكل كبير. ومع موجات رفع أسعار الطاقة المستقبلية سيزداد الوضع الاجتماعى سوءا، وهو ما قد يتحول إلى اضطرابات سياسية يصعب التكهن بنتائجها. بينما يحدث العكس إذا رفعت الحكومة الدعم والإنفاق الاجتماعى فى الموازنة، فيتحسن الوضع الاجتماعى، ويتم إحراز مكاسب سياسية كبيرة، لكن قد يؤدى ذلك إلى وضع اقتصادى غير مستدام مع ارتفاع عجز الموازنة والدين الحكومى مما يؤدى لاحقا لتقشف أكثر قسوة ووضع اجتماعى حرج.

الثانى: ما الوضع الحالى للمحاور الثلاثة؟
النظر بشكل استراتيجى يوضح وضعا حرجا. فالاقتصاد يمر بفترة من الركود التضخمى يصعب التعامل معه مما قد يتطلب عدة سنوات من السياسة التقشفية وما يتبعها من عبء على الفئات الأكثر فقرا. أما الوضع السياسى فقد يكون فى تراجع أكبر. ومن الجدير بالذكر، أن المستثمرين لا يأبهون للوضع السياسى كثيرا بينما محط اهتمامهم هو الوضع الأمنى. ويمكن الاستدلال بالعقد الذى سبق الثورة، حيث تدفقت الاستثمارت الأجنبية، وكانت مصر محل اهتمام المستثمرين فى المنطقة على الرغم من عدم وجود رؤية سياسية واضحة وطغيان مشروع الثوريث على المشهد إضافة إلى تصاعد الاحتجاجات العمالية.

لذلك فالمشكلة الحقيقية للمستثمرين هى الاضطراب الأمنى، بينما يظل الوضع الاجتماعى هو الأكثر تضررا كالمعتاد من تدهور الوضع السياسى والاقتصادى. أما الأكثر حرجا هو التأثير السلبى لهذا العوامل على بعضها البعض. فتدهور الاقتصاد يؤدى إلى سوء الوضع الاجتماعى ويولد مخاطر سياسية وأمنية، وهو ما يؤدى إلى إحجام المستثمرين، وبالتالى تراجع الاقتصاد، وهو ما بدوره يؤدى إلى تدهور الوضع الاجتماعى، وما يستتبعه من انخفاض القوة الشرائية وبالتالى مزيد من التدهور الاقتصادى وهكذا.

الثالث: هل يمكن تطوير أحد المحاور دون الآخرين؟
قد يبدو وكأننا دخلنا «مغارة على بابا» وأن الخروج منها مستحيلا، لكن هناك مخرجا بالتأكيد. حتى يتسنى الوصول لنهضة شاملة، من الضرورى وصول كل محور إلى حد مقبول من التطور لضمان الاستدامة والتفاعل الإيجابى بين المحاور المختلفة. قد لا يكون المخرج مثاليا بالعمل على تطوير المحاور الثلاثة فى آن واحد، لكن العمل على تطوير أحد المحاور قد يكون له أثر على المحاور الأخرى والصورة الكلية. ولعل العقد الأخير الذى سبق الثورة خير دليل على ذلك. فالاقتصاد استطاع تحقيق معدلات نمو مرتفعة، كان يتباهى بها الوزراء آنذاك، بينما شهد الوضع السياسى والاجتماعى تدهورا ملحوظا حيث ارتفعت معدلات الفقر وزاد عدم استقرار الوضع السياسى مما أدى إلى خروج الناس فى ٢٥ يناير مطالبين بإسقاط النظام. ولذلك فمهما عظم حجم الإنجاز فى أحد الأبعاد دون تطور الأبعاد الأخرى، فإن النظام مهما كانت قوته لن يكون مستداما. لكن من ناحية أخرى، يستطيع أحد المحاور أن يسبق الآخرين.

الرابع: ما أثر إصلاح المحور الاقتصادى على المحاور الأخرى؟
فى وقت يظهر فيه أن المجال السياسى مغلق تحت دعاوى محاربة الإرهاب، قد يكون المحور الأوقع للخروج من الدائرة المفرغة هو المحور الاقتصادى حيث أن تحسن الاقتصاد وما يلحق به من خلق فرص عمل وانخفاض فى معدلات الفقر من المواضيع الأقل خلافا فى المجتمع، وإن اختلف الناس على كيفية تطبيق ذلك. هذا التحسن الاقتصادى والاجتماعى، حتى وإن كان طفيفا وتدريجيا، قد يمثل خطوة فعالة للخروج من الدائرة المفرغة. لكن تحسن الاقتصاد وما يتطلبه من خفض فى عجز الموازنة لن يأتى بدون تكلفة اجتماعية على المدى الكثير، وهو ما على الحكومة أن تنتبه له بتبنى إصلاحات اقتصادية تدريجية مصحوبة بتوسيع شبكة الضمان الاجتماعى من تحويلات نقدية مباشرة وبرامج اجتماعية حتى يتم تقليل الأثر السلبى للإصلاحات الاقتصادية، لكن يظل الحد الأدنى من الاستقرار الأمنى مطلوب لإتاحة المجال لتلك الإصلاحات والتى تستطيع إحداث تحسن اقتصادى يعقبه تحسن اجتماعى يمكن أن يخفف من تدهور الوضع العام.

الخلاصة أن مناقشة الملف الاقتصادى فى حالتنا المعقدة لا تعتبر من باب الرفاهية حيث يمكن للاقتصاد أن يمثل تذكرة الخروج من غياهب التدهور المتسارع. ففى وضع كالذى تمر به مصر يبدو وكأننا دخلنا «مغارة على بابا»، لكن بلا شكل هناك أمل فى الخروج منها بالتركيز على المحور الاقتصادى، الأكثر إتاحة والأقل جدلا، بتنبى إصلاحات اقتصادية تدريجية مصحوبة بتوسيع شبكة الضمان الإجتماعى. وهذا التوجه يستطيع تحسين الوضع الاقتصادى والإجتماعى وهو ما سينعكس بدوره على الجانب السياسى إذا توفر الحد الأدنى من الاستقرار الأمنى، لكن سيظل استدامة هذا التحسن مرهونة بوجود تنمية حقيقية عبر المحاور الثلاثة.




عمر الشنيطى
13 - ديسمبر - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق و موقع CNN  بالعربية"

No comments:

Post a Comment