Saturday, July 25, 2015

عن اقتصاديات الكنافة بالمانجة

شهد رمضان الماضى تعليقات كثيرة على الكنافة بالمانجة، التى أصبحت من أهم حلويات رمضان فى الطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة بعد أن وصلت الإبداعات لمجال الحلويات الشرقية التقليدية، وصارت ضجة على مواقع التواصل الاجتماعى على أسعار الكنافة بالمانجة والتى ارتفعت بما يزيد على ٣٠٪ فى العديد من محال الحلويات مقارنة بالعام الماضى، حتى إن البعض علق ساخرا أن الاستثمار فى الكنافة بالمانجة أصبح أكثر ربحا من ودائع البنوك.
قد يبدو الموضوع ثانويا لكنه يشير إلى الكثير من التطورات الاقتصادية. فالأسرة التى تعتاد شراء سلة منتجات بشكل دورى، شهريا على سبيل المثال، تتابع أسعار تلك المنتجات لكنها تستقبل ارتفاع الأسعار تدريجيا وبزيادة طفيفة شهرا بعد شهر مما يجعلها تعتاد على الارتفاع المتكرر وتقارن السعر الجديد بسعر الشهر الماضى وليس سعر العام السابق. فلو على سبيل المثال ارتفع سعر سلة المنتجات بنسبة ٣٠٪ من سنة لأخرى، فإن هذا يعنى معدل ارتفاع شهرى يقارب ٢ــ٢.٥٪. ولذلك فإذا كان سعرها فى بداية العام ١٠٠ جنيه وكان الارتفاع تدريجيا خلال العام، سيصبح سعرها فى الشهر التالى ١٠٢ــ١٠٣ جنيه، وهى زيادة بسيطة قد لا تنتبه لها الأسرة.
لكن الكنافة بالمانجة من الحلويات الموسمية ولا يتابع الناس أسعارها بشكل دائم ولذلك تستطيع أن تفاجئنا بارتفاع أسعارها من عام لآخر. هذا الارتفاع لم يقتصر على الكنافة بالمانجة فقط ولا حتى الحلويات الشرقية المماثلة التى ارتفعت بمعدلات متقاربة، لكن تلك الارتفاعات شملت العديد من المنتجات الأخرى. بطبيعة الحال، ارتفاع سعر سلعة أو سلعتين بما يفوق ٣٠٪ لا يعنى أن معدلات التضخم وصلت لهذا المستوى الجنونى لأن معدلات التضخم تقيس متوسط الزيادة فى أسعار سلة كبيرة من السلع والخدمات، وإن كانت المعدلات الرسمية تشير لزيادة التضخم أخيرا.
وتشير قصة الكنافة بالمانجة لموضوع هام آخر، وهو التصور السائد بأن سبب ارتفاع الاسعار هو ارتفاع الدولار الذى يؤدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، وهى نسبة كبيرة من المنتجات فى السوق. السبب الآخر، فى اعتقاد الكثيرين، هو ارتفاع أسعار الطاقة بعد أن عمدت الحكومة لترشيد دعم الطاقة مما أدى لارتفاع تكلفة التشغيل والنقل وبالتالى إجمالى أسعار المنتجات. لكن هذين السببين لا يفسران ارتفاع أسعار الكنافة بالمانجة بهذا الشكل، حيث إن أغلب مكوناتها محلية الصنع وبالتالى لا تتأثر كثيرا بارتفاع الدولار، كما أن إنتاجها ليس كثيف الاستهلاك للطاقة ولا يتطلب نقلها تكلفة كبيرة، وبالتالى تأثرها بأسعار الطاقة لا يفترض أن يكون كبيرا.
وهنا يأتى سبب آخر لارتفاع الأسعار قلما يتم الإشارة إليه وهو ما يعرف بخلق النقد، حيث يقوم البنك المركزى بطباعة النقد واستخدامه لشراء السندات الحكومية لتمويل عجز الموازنة وهو ما يزيد المعروض من النقد فى الاقتصاد. ويتبنى البنك المركزى تلك السياسة من أجل تنشيط الاقتصاد بتشجيع الأفراد على الإنفاق والبنوك على الإقراض. كما أن التوسع فى طباعة النقد يساعد على توفير التمويل اللازم لتمويل عجز الموازنة لكن تلك السياسة تأتى على حساب زيادة معدلات التضخم.
قد تبدو علاقة طباعة النقد بارتفاع الأسعار نظرية لكن لنتصور بلدا افتراضيا يسكن فيه بضعة أشخاص ويوجد فيه ١٠٠ منتج فقط والمتاح من النقد فيه ١٠٠٠ جنيه فقط. لو اعتبرنا أن المنتجات المتاحة أساسية وتكاد تكفى احتياجات الأفراد، فإن الأفراد سيستخدمون كل المتاح من النقد لشراء تلك المنتجات مما يجعل متوسط سعر المنتج ١٠ جنيهات. إذا أراد من يدير تلك البلد الافتراضية تحفيز الاقتصاد بمضاعفة المتاح من النقد ليصل إلى ٢٠٠٠ جنيه بينما لم يزد الإنتاج الحقيقى، فإن ذلك سيؤدى لزيادة ما يستطيع دفعه الأفراد للحصول على تلك المنتجات مما يؤدى لارتفاع متوسط أسعار المنتجات تدريجيا ليصل إلى ٢٠ جنيها بدلا من ١٠ جنيهات.
رجوعا للواقع، فقد قام البنك المركزى بالتوسع فى خلق النقد أخيرا حيث تضاعف استثمار البنك المركزى فى السندات الحكومية لتصل مدفوعات الفوائد للبنك المركزى ٦٦ مليار جنيه، ما يعادل ٢٧٪ من إجمالى الفوائد فى موازنة العام المالى الجديد، مقابل ٣٢ مليار جنيه، ما يعادل ١٦٪ من إجمالى الفوائد فى موازنة العام الماضى. وقد انعكس ذلك على زيادة المعروض من النقد فى القطاع المصرفى بقرابة ١٧ــ ١٨٪ سنويا فى الأعوام الأخيرة، مقارنة بمتوسط زيادة سنوى ٨ ــ١٠٪ قبل ٢٠١٢، مما أدى لارتفاع معدلات التضخم لتصل إلى ١٣٪ أخيرا متأثرة بارتفاع الدولار وزيادة أسعار الطاقة والتوسع فى طباعة النقد، على الرغم من أن التضخم المحسوس به فى الواقع قد يكون أكثر من ذلك.
لا يخفى المواطنون استياءهم من ارتفاع الأسعار لكن تجربة الكنافة بالمانجة أوضحت ردود أفعال متفاوتة. فالفئات ميسورة الحال من أصحاب الدخل المرتفع لم يعبأوا بذلك الارتفاع واستمروا فى شرائها من محلات الحلويات الفاخرة بعد أن أصبح ارتفاع سعرها سببا فى جعلها منتجا فاخرا يمكن التباهى به. لكن على الناحية الأخرى، تذمر البعض من ارتفاع الأسعار على مواقع التواصل الإجتماعى، وهم على الأرجح من أصحاب الدخول المتوسطة، بعد أن طالتهم موجات التضخم المتتالية حتى إن بعضهم نشر وصفات تحضير الكنافة بالمانجة فى المنازل، مؤكدين أن تكلفة تحضيرها أقل بكثير من سعرها فى محلات الحلويات الفاخرة.
بشكل استراتيجى، الفترة الأخيرة أظهرت عزم الدولة على تحفيز الاقتصاد بكل السبل الممكنة حتى لو جاء ذلك من خلال طباعة كميات كبيرة من النقد لرفع معدلات النمو وتمويل عجز الموازنة وهو ما يأتى على حساب ارتفاع الأسعار بشكل كبير وما ينتج عنه من آثار اقتصادية واجتماعية حرجة، حيث إن التضخم يقلل من القوة الشرائية الحقيقية للأفراد ويدفعهم لتقليل نفقاتهم تدريجيا وهو ما قد يتطور ليصبح شديد الخطورة لو استمرت السياسة الحالية. النمو هام لكن استقرار الأسعار بلا شك أهم وهو ما يتطلب إعادة النظر فى السياسة الاقتصادية الكلية لإحداث توازن بين دفع النمو وضبط الأسعار.
عمر الشنيطى
26 - يوليو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق وموقع CNN  بالعربية"

No comments:

Post a Comment