Saturday, July 11, 2015

فى ظلال أزمة اليونان

اتجهت أنظار العالم الأسبوع الماضى لليونان التى شهدت استفتاء على خطة التقشف الذى يطالب بها الدائنين بعد أن غرقت اليونان فى بحر من الديون وتعثرت المفاوضات بين الحكومة ومجموعة الدائنين. وكالمعتاد انقسم العالم لفريقين: الأول يؤيد وجهة نظر الدائنين بأن اليونان قد تمادت فى الإنفاق فى العقود الأخيرة وعليها أن تستمر فى التقشف الذى بدأته منذ سنوات، بينما ترى المجموعة المعارضة لطلبات الدائنين أن اليونان قد تقشفت بما يكفى وأن المزيد من التقشف سيزيد الوضع سوءا.
هذه المشكلة ليست وليدة اللحظة، ففى مطلع الثمانينيات كان الاقتصاد اليونانى فى وضع جيد من حيث حجم الديون لكن متوسط دخل الفرد كان منخفضا مقارنة بالعديد من الدول الاوروبية مما دفع الحكومات المتعاقبة فى الثمانينيات والتسعينيات إلى زيادة الإنفاق الاجتماعى، وهو ما جاء على حساب ارتفاع عجز الموازنة وزيادة الديون إلى أن انضمت اليونان للاتحاد الأوروبى فى مطلع الألفية. وعلى الرغم من عدم صلابة الوضع الاقتصادى لليونان فى تلك الفترة فإن الاعتقاد الذى ساد وقتها أن الانضمام لليورو سيساعد على تعافى الاقتصاد اليونانى.
كان للانضمام لليورو فوائد واضحه، حيث انخفض سعر الفائدة على الديون اليونانية وأقبل المستثمرون على إقراضها. ودفع ذلك حكومات اليونان للمزيد من الاقتراض الرخيص دون الشروع فى إجراءات اقتصادية تصحيحية. ويرجع ذلك إلى النمو الكبير الذى حققته اليونان خلال الفترة من ٢٠٠١ــ٢٠٠٨ والذى كان محط إعجاب العالم، حيث استشهد به القادة الأوروبيون كدليل على عبقرية فكرة اليورو كمنطقة اقتصادية وعملة موحدة، وبالتالى لم يكن هناك ضغط على اليونان لمعالجة مشاكلها الهيكلية.
ثم هبت عاصفة الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨ لتضرب الاقتصاد العالمى، وتجعل العديد من الدول ذات مستويات الديون المرتفعة مثل اليونان فى مهب الريح. وبدأ المستثمرون الذين كانوا يقبلون بشراهة على شراء الديون السيادية فى إعادة النظر فى مخاطر تلك القروض، وهو ما أدى إلى زيادة الفائدة على الديون اليونانية ودفع الاتحاد الأوروبى وصندوق النقد للتدخل سريعا لمساعدة اليونان للخروج من أزمتها منعا لانهيار باقى منطقة اليورو خاصة الاقتصاديات الأصغر فيها.
جاء تدخل الاتحاد الأوروبى وصندوق النقد مشروطا ببرنامج تقشفى قاسى لخفض النفقات والسيطرة على العجز. وانصاعت اليونان لتلك المطالب وحققت خفضا كبيرا فى نفقاتها وهو ما كان فى حقيقة الأمر محط إشادة المؤسسات الدولية. لكن هذا التقشف الصارم كان له أثر جانبيا لم يكن ملاحظا فى البداية، حيث أدى التقشف لانكماش كبير فى حجم الاقتصاد اليونانى، والذى فقد ثلث حجمه فى بضع سنوات وارتفعت فيه معدلات البطالة لمستويات قياسية بالنسبة لبلد أوروبى.
لكن عضوية الاتحاد الأوروبى لم تساعد اليونان هذه المرة، بل كبلتها إذ إن العملة الموحدة وضعت السياسية النقدية فى يد البنك المركزى الأوروبى. ففى الظروف العادية، كان البنك المركزى اليونانى سيخفض قيمة عملته لتشجيع الصادرات والسياحة. لكن مع وجود اليورو، أصبح ذلك غير ممكن مما أضاع على اليونان تلك فرصة. ولذلك أضحت اليونان فى مأزق، فعليها التقشف ماليا، بينما لا يمكنها التحكم فى سياستها النقدية لمعادلة ذلك.
وبعد عدة سنوات من التقشف، طالبت مجموعة الدائنين بالمزيد من التقشف، بينما رفضت الحكومة اليسارية المنتخبة أخيرا مطالب الدائنين معللة ذلك بأن التقشف على مدى الخمس سنوات الماضية لم ينهى المشكلة، فكيف لمزيد من التقشف أن يفعل ذلك. ومع احتدام الخلاف وتخلف اليونان عن سداد دفعة مستحقة لصندوق النقد الشهر الماضى فى سابقة لم يقابلها صندوق النقد مع أى من الدول المتقدمة من قبل، صوت اليونانيون برفض مطالب الدائنين بمزيد من التقشف.
نتيجة الاستفتاء كانت صادمة للدائنين ومؤيديهم بعد أن خوفوا الشعب اليونانى من رفض تلك المطالب وما قد ينتج عنه من ترك اليونان للاتحاد الأوروبى وانهيار الاقتصاد اليونانى. نتيجة الاستفتاء لن تغير المواقف كثيرا وعلى الأرجح لن تقرب من وجهات النظر المختلفة تماما تجاه تلك القضية. لكن بلا شك ما يحدث فى اليونان ليس بالأمر الهين أو المحصور محليا. فاليونان ستواجه فترة حرجة جدا اقتصاديا سيتعرض خلالها اقتصادها لضربات متعددة وأثر ذلك من المتوقع أن يمتد لمنطقة اليورو، وهو ما يمكن أن يكون له آثار متعدية على الدول النامية كمصر، والتى من المتوقع أن تتأثر على عدة أصعدة:
الأول: على الرغم من مزاعم بعض المحللين أن الاتحاد الأوروبى مستعد لأزمة اليونان ويستطيع منع انتشارها إلا أن البعض الآخر يرى أن أزمة اليونان قد تمتد للعديد من الدول الأوروبية الأخرى وستزيد من عمق الركود الذى ضرب أوروبا منذ ٢٠٠٨. ويعتبر هؤلاء أن أزمة اليونان قد تفتح الباب لأزمة اقتصادية جديدة كما حدث بعد انهيار بنك الاستثمار الأمريكى ليمان برازرز.
الثانى: الركود المتوقع استمراره فى أوروبا وتصاعد أزمة اليونان سيدفع البنك المركزى الأوروبى إلى التوسع فى سياسة التيسير الكمى بطباعة كمية أكبر من اليورو لشراء ديون الدول والبنوك الأوروبية، وهو ما سيؤدى إلى ضعف اليورو أمام العملات الأجنبية بما فيها الجنيه، حتى بعد التخفيض الذى يتبناه البنك المركزى المصرى للجنيه. الركود فى أوروبا وانخفاض قيمة اليورو بطبيعة الحال سيخفضان الطلب على الصادرات المصرية للسوق الأوروبية، الذى يعتبر الشريك التجارى الأكبر لمصر.
الثالث: تخلف اليونان عن سداد ديونها وتصاعد الأزمة فيها سيضع محاذير على الديون السيادية للدول النامية، وهو ما سيزيد من صعوبة حصول مصر على تمويل خارجى سواء من المؤسسات الدولية أو من الأسواق المالية ويزيد كذلك من الشروط المفروضة، كما أن أسعار الفائدة على ديون تلك الدول ستشهد ارتفاعا فى الفترة المقبلة.
إن أزمة اليونان بلا شك حدث جلل فى الاقتصاد العالمى قد يصعب التنبؤ بآثارها المتعدية الآن لكن أثرها السلبى على الاقتصاد المصرى قد يلوح فى الأفق مع زيادة علامات الاستفهام حول الديون السيادية للدول النامية والهشة اقتصاديا فى وقت تسعى فيه مصر للتوسع فى الاقتراض الخارجى وزيادة صادراتها.
عمر الشنيطى
11 - يوليو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

No comments:

Post a Comment