زار القاهرة أخيرا
الكاتب الاقتصادى الفرنسى المرموق توماس بيكيتى، والذى يعتبر كتابه «رأس المال فى
القرن الحادى والعشرين» الصادر منذ عامين أحد أهم الكتب فى مجال الاقتصاد وأكثرها
مبيعا، حيث يتعرض بشكل موضوعى لقضية توزيع الدخل والثروة. هذا الكتاب الشهير الذى
صدر بالفرنسية تم ترجمته للعديد من اللغات، وتم إطلاق نسخته العربية من ترجمة
الكاتبين الاقتصاديين المصريين، وائل جمال وسلمى حسين، خلال زيارة بيكيتى لمصر.
تلك الزيارة وإطلاق النسخة العربية من الكتاب، قد تكون فرصة جيدة للنظر فى قضية
توزيع الدخل فى مصر، وأثرها على وجود تنمية مستدامة.
برز أخيرا اتجاه عالمى
يعترض على التفاوت فى توزيع الدخل، ويعتبر عدم المساواة المبالغ فيها ليست فقط
تحديا اجتماعيا وسياسيا بل أيضا تحديا اقتصاديا. وجاءت العديد من التطورات
العالمية، لتطيح بعدة ثوابت اقتصادية، فالنظرية تقول إن اقتصاد السوق قادر على خلق
فرص العمل وتحسين دخل الأفراد، لكن الواقع أثبت أن الاقتصاد العالمى مر بتقلبات
شديدة ومتتالية كان لها أثر سيئ على مستويات التوظيف وأدت لانخفاض مرتبات الموظفين
الحقيقية فى العقود الأخيرة. كما تقول النظرية إن الأغنياء هم من يتحملون العبء
الأكبر للركود، لكن الواقع أثبت أنه بعد الأزمة المالية العالمية حصل أغنى ١٪ من
السكان فى أمريكا على ٩٥٪ من مكاسب تعافى الاقتصاد. ذلك التباين الشديد بين
النظرية والتطبيق، دفع الكثيرون من داخل النظام الاقتصادى الحالى، للمطالبة بتدخل
الحكومات لتقليص الفجوة فى توزيع الدخل.
وهذا التغير يمكن
إرجاعه لعدة أسباب: السبب الأول يعود للأزمة المالية العالمية، والتى شككت فى
النظام الاقتصادى السائد وعدم عدالته، حيث تدخلت الحكومات باستخدام أموال دافعى
الضرائب، لإنقاذ القطاع المالى الذى أصبح أكبر من أن يسقط. أما السبب الثانى فيرجع
للعديد من تقارير صندوق النقد الدولى والتى أكدت أن الفجوة الكبيرة فى توزيع الدخل،
تعتبر عائقا حقيقيا لجهود التنمية المستدامة. فعلى الرغم من كون المساواة المبالغ
فيها غير محبذة، حيث إنها تزيل الحافز على العمل والإبداع، فإن عدم المساواة
المبالغ فيها غير مقبولة أيضا، حيث إنها تعيق التنمية وتمنع الفقراء من الحصول على
الموارد المطلوبة لتحسين أحوالهم.
أما السبب الثالث
فيتعلق بتقارير نشرتها مؤسسات دولية، حيث أصدرت مؤسسة «أوكسفام» البريطانية،
تقريرا يوضح غياب ثقة الأفراد فى عدالة النظام الاقتصادى، حيث يسيطر ١٪ من السكان
على نصف الثروة عالميا، كما أن النصف الأقل دخلا من السكان يملكون ثروة تساوى ما
يملكه أغنى ٨٥ شخصا فقط فى العالم. بينما يأتى السبب الرابع متعلقا بكتاب بيكيتى
والذى أثرى الحوار بدراسة تحليلية ومؤشرات موضوعية، توضح مدى التفاوت فى توزيع
الدخل، وتكشف خصائص هامة فى قضية تراكم الثروة.
يمكن النظر للكتاب على
أنه مجموعة من الأبحاث الكمية التى تحلل الثروة عبر الزمن لفهم طبيعة تراكم
الثروة، وما ينتج عنها. ومن أهم النقاط التى يؤكدها الكتاب أن نسبة العائد على رأس
المال أعلى من نسبة نمو الاقتصاد، مما يجعل الثروة الموروثة تتراكم بشكل أكبر من
الثروة التى يُحصلها الفرد من عمله. ولذلك يتطلب التغلب على عدم المساواة فى توزيع
الدخل إجراءات راديكالية مثل الضريبة على الثروة والميراث. تلك النقطة التى تم
إثباتها كميا تدحض العديد من المبادئ الأساسية للنظرية الرأسمالية مثل فكرة تساقط
ثمار التنمية مع نمو الاقتصاد ونظرية الترقى الاجتماعى الناتج عن التعليم والعمل
والتى كانت تشوبها العديد من علامات الاستفهام أخيرا، حيث إن الوقائع والمؤشرات
تشير إلى عدم تحققها، ولكن ظلت الكثير من تلك الأسئلة بدون إجابات حتى صدور هذا
الكتاب والذى قدم تفسيرا واضحا لفشل تلك النظريات.
بطبيعة الحال، قوبل
الكتاب بالكثير من السخط من أنصار الرأسمالية، لكنه استطاع أن يحدث ضجة فى تلك
الأوساط. ولعل السبب فى ذلك أن فرضيات الكتاب مدعومة بتحليل كمى قوى وتفصيلى.
بالإضافة لذلك، فإن الكتاب لا يهدف لهدم الرأسمالية من جذورها ودفع الحكومات
لتأميم القطاع الخاص تماشيا مع الصورة الذهنية عن مثل هذه النوعية من الكتب. لكن
الكتاب فى حقيقة الأمر، يهدف لتقويم النظام الاقتصادى الحالى، وتدعيمه بطرق لإعادة
توزيع الدخل مما يحدث توازنا اجتماعيا دون هدم النظام الاقتصادى. على الرغم من
صلابة التحليل فى الكتاب، إلا أن المقترح الرئيسى فيه والمتعلق بفرض ضريبة عالمية
على الثروة، لإحداث توازن فى توزيع الدخل يبدو أمرا بعيد المنال.
ما يحسب لذلك الكتاب،
أنه فتح الباب على مصراعيه لدراسة قضية توزيع الدخل، حيث تم إصدار العديد من
الأبحاث والتقارير عن نفس الموضوع منذ صدور الكتاب سواء من المؤسسات العالمية أو
الجامعات الغربية. والجدير بالذكر، صدور دراسة أخيرا تشير إلى أن العائلات الأكثر
غنى فى فلورنسا بإيطاليا لم تتغير على مدى الستة قرون الماضية. فبالنظر لأسماء
عائلات دافعى الضرائب فى فلورنسا، تبين أن العائلات الأعلى دخلا لم تتغير خلال ٦٠٠
عام، على الرغم مما شهدته إيطاليا خلال تلك الفترة من حصار نابليون وحكم موسولينى
الفاشى والحربين العالميتين، مما يوضح قدرة العائلات على توريث الثروات والحفاظ
عليها حتى فى أحلك الظروف، وهو ما يؤكد بقوة استنتاج بيكيتى عن العائد على رأس
المال.
الحديث عن توزيع الدخل
شديد الأهمية لمصر التى قامت فيها ثورة يأتى على رأس مطالبها العيش والعدالة
الاجتماعية، حيث لم ينعم محدودو الدخل بثمار النمو الاقتصادى فى السنوات التى سبقت
الثورة، بل إن محدودى الدخل هم أكثر الفئات تضررا من الركود الذى أعقب الثورة،
فزادت معدلات البطالة والفقر بشكل كبير، بينما لم تتأثر ثروات رجال الأعمال الكبار
فى مصر بل زادت حتى مع الاستهداف السياسى. تطوير العشوائيات ودعم بعض المنتجات
وحملات التبرعات كلها توجهات جيدة سواء من الحكومة أو المؤسسات السيادية أو
المجتمع، لكن لا يغنى ذلك عن إعادة النظر فى نظام الضرائب، وكذلك نظام الضمان
الاجتماعى المتبع للوصول لنظام متكامل يحفظ كرامة الفئات غير الميسورة ماديا ويضمن
وجود تنمية مستدامة.
عمر الشنيطى
10 - يونيو - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment