لعقود طويلة ظلت
المحروقات المصدر الرئيسى لتوليد الكهرباء، وعلى الرغم أن الطاقة المتجددة معروفة
منذ عقود إلا أن مساهمتها فى توليد الكهرباء كانت محدودة، وكان يُنظر لها على أنها
مكلفة اقتصاديا، ويصعب أن تنافس المحروقات، لكن مصادر الطاقة المتجددة ظلت تحارب من
أجل حصة حتى ولو محدودة مدفوعة بدعم كبير من أنصار البيئة. وبالفعل خلال العقود
الأخيرة، استطاعت الطاقة المتجددة أن تجد لنفسها مكانا على خريطة الطاقة العالمية.
ثم جاءت الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨ لتزيد من الضغوط على قطاع الطاقة
المتجددة، والذى كان يتوقع أن يتراجع بشدة، لكن الواقع جاء مغايرا لذلك.
فى الأعوام القليلة الأخيرة، حققت مصادر الطاقة المتجددة، نجاحات بارزة كان ينظر لها منذ عقود على أنها من درب الخيال. فقد استطاعت طاقة الرياح فى الدنمارك توليد ٤٠٪ من الكهرباء العام الماضى، وقد وصلت فى بعض الأيام إلى ١٤٠٪ من احتياج الشبكة، مما دفعها لتصدير الكهرباء الفائضة للدول المجاورة. وهناك دول أخرى وصلت مساهمة مصادر الطاقة المتجددة إلى ١٠٠٪ فى بعض الأوقات مثل أيسلندا، اعتمادا على الطاقة الحرارية الأرضية والنرويج، اعتمادا على الطاقة الكهرومائية. أما ألمانيا والتى تعتبر أكبر منتج فى أوروبا للطاقة المتجددة، فقد استطاعت بالاعتماد على الطاقة المتجددة، أن تسد ثلث حاجتها فى توليد الكهرباء العام الماضى، كما أنه خلال الشهر الحالى، استطاعت الطاقة المتجددة توليد كامل احتياجات ألمانيا من الكهرباء فى أحد الأيام.
فى نفس السياق، استطاعت الطاقة المتجددة فى البرتغال، أن تغطى احتياجات شبكة الكهرباء بالكامل لمدة أربعة أيام متواصلة فى العام الماضى، بفضل مزيج من طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية. أما بريطانيا فقد احتفلت هذا الشهر بأسبوع كامل يتم توليد الكهرباء فيه دون الاعتماد على الفحم مطلقا، بفضل مصادر الطاقة المتجددة المختلفة. ولا يقتصر الاعتماد على الطاقة المتجددة فى أوروبا فقط أو حتى فى الدول المتقدمة حتى أنه فى كوستاريكا، إحدى دول أمريكا الجنوبية، استطاعت شبكة الكهرباء أن تعتمد على مصادر الطاقة المتجددة خاصة الطاقة الكهرومائية لتوليد الكهرباء بالكامل لمدة ٧٥ يوما فى العام الماضى. تلك الإنجازات الكبيرة تجعل الاعتماد على الطاقة المتجددة أمرا بديهيا للدول التى تريد توسيع طاقتها فى توليد الكهرباء بشكل مستدام وغير ضار للبيئة.
ولعل الدول التى استطاعت الاعتماد على الطاقة المتجددة بشكل كبير هى الدول قليلة السكان والتى فى نفس الوقت لديها مساحات كبيرة أو موارد طبيعية تساعد فى توليد الطاقة المتجددة. لكن حتى الدول ذات عدد السكان الكبير فى أوروبا، تسعى لزيادة مساهمة الطاقة المتجددة فى توليد الكهرباء، مما يؤكد على وجود توجه عام عالميا لتشجيع الطاقة المتجددة، والذى يمكن إرجاعه لسببين رئيسيين. الأول: الدعم الحكومى فى أوروبا والدول التى تهتم بوجود مصادر طاقة متعددة، بعيدا عن الاعتماد على المحروقات، فقط من أجل وجود نظام توليد مستدام للكهرباء، يقلل من تأثر الاقتصاد بتذبذب أسعار البترول وكذلك يقلل من أضرار المحروقات البيئية ومخاطر المحطات النووية. فى هذا الإطار تستهدف حكومة ميركل فى ألمانيا وقف العمل بمحطات الفحم وكذلك المحطات النووية فى السنوات القادمة، ويبدو من المؤشرات أن ذلك الهدف الطموح فى طريقه للتحقق. الدعم الحكومى لا يأتى فقط بالشعارات ولكن يجب ترجمته لبرامج مالية تشجع مصادر الطاقة المتجددة وتجعلها مربحة ماليا، مما يشجع المستثمرين على الاستثمار فيها. أما السبب الثانى فيرتبط بانخفاض تكلفة إنشاء وتشغيل محطات الطاقة المتجددة مع زيادة عدد المحطات وزيادة حجم الطاقة المولدة، وكذلك زيادة التطور التكنولوجى، مما ينعكس إيجابا على انخفاض تكلفة الكهرباء المولدة فى النهاية، ويزيد من جاذبية الطاقة المتجددة.
بالنظر للوضع فى مصر، نجد أن مصر عانت من انقطاعات متكررة للكهرباء فى الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤، مما كان سببا لسخط المواطنين. لكن بفضل الخطة السريعة والكبيرة لرفع طاقة شبكة الكهرباء، زادت قدرة توليد الشبكة وتراجعت الانقطاعات. وقد شملت الخطة العاجلة اتفاقا كبيرا يمكن اعتباره بالتاريخى مع إحدى الشركات الألمانية العملاقة، ليزيد من طاقة الشبكة بما يقارب ٥٠٪ عن طريق محطات تعمل بالغاز الطبيعى بالأساس، بالإضافة لبعض محطات طاقة الرياح بتكلفة إجمالية تقارب ١٠ مليارات دولار. كما وضعت الحكومة أولوية لتوريد الغاز الطبيعى لمحطات الكهرباء على حساب المصانع، مما كان له أثرا سلبيا على بعض الصناعات، لكنه يفسر التحسن الملحوظ فى أداء شبكة الكهرباء.
وعلى الرغم من إطلاق
الحكومة لبرنامج طموح لدعم الطاقة الشمسية بضمان شراء الطاقة المولدة بأسعار مجزية
من المستثمرين، لكن ذلك البرنامج لم يبدأ بعد فى توليد الكهرباء، كما أن طاقته
الإجمالية محدودة. أما الجديد فهو محطة الطاقة النووية الذى تم التعاقد عليها مع
الجانب الروسى بإجمالى تكلفة تبلغ ٢٥ مليار دولار، يتم تمويل أغلبها بالاقتراض من
روسيا.
لا يمكن إنكار التحسن الملحوظ فى أداء شبكة الكهرباء أخيرا مقارنة بالانقطاعات المتكررة فى الأعوام السابقة. لكن التوجه العام يفرض العديد من الأسئلة الهامة. ما هى الجدوى من الزيادة الكبيرة فى طاقة الشبكة؟ هل سينمو الاقتصاد بشكل غير مسبوق حتى يحتاج لتلك الطاقة الفائضة التى يتم التعاقد عليها حاليا؟ من ناحية أخرى، فى وقت تقلص فيه دول أوروبا من اعتمادها على الطاقة النووية والمحروقات، لماذا لا نحذو نحن هذا الحذو بدلا من إنشاء محطة نووية ومحطات غاز وفحم؟ أما من ناحية طريقة التعاقد، فإن الصفقات الكبرى التى تم عقدها كانت صفقات شراء وليست استثمار مما يزيد من العبء على الحكومة. أما الأمر الأهم فيتعلق بالتمويل. هل ستستطيع مصر سداد مديونياتها الخارجية التى ترتفع بمعدلات كبيرة؟ حتى وإن كان متوسط الدين الخارجى محدودا حتى الآن فإن الزيادة المضطردة فى الدين الخارجى مع تراجع مصادر الاقتصاد من العملة الصعبة، يجعل بعض هذه الصفقات خطرة اقتصاديا. فإن كنا لا ننكر التحسن فى أداء شبكة الكهرباء، ولكن يجب النظر فى بعض التفاصيل لتجنب العواقب السلبية مستقبلا.
عمر الشنيطى
27 - مايو - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment