على الرغم من حداثة تأسيسها إلا أن السعودية تعتبر دولة محورية فى المنطقة، حيث إنها أكبر دولة فى مجلس التعاون الخليجى، إضافة إلى أن للسعودية أهمية خاصة نظرًا لوجود بيت الله الحرام بها والذى يحج الناس إليه كل عام. اقتصاديًا، تعتبر السعودية من أكبر منتجى البترول فى العالم حيث تنتج قرابة ١٠ ملايين برميل يوميًا وهو ما يزيد على ١٠٪ من الإنتاج العالمى. إنتاج البترول الهائل جعل للسعودية مكانة مهمة فى الاقتصاد العالمى، حيث إن حجم إنتاج السعودية يعتبر عاملاً رئيسيًا فى تحديد سعر البترول، وهذا ما مكنها من جنى ثروات طائلة على مر العقود الأخيرة تقدر بمئات المليارات من الدولارات. لكن السعودية ذات التأثير العالمى ظلت دولة محافظة داخليًا وكذلك دولة لا تتقبل التغيير إلى حد كبير طوال العقود الماضية.
لكن العام الماضى شهد تغيرات كبيرة فى المملكة. فعلى الصعيد السياسى، تولى الملك سلمان زمام الأمور وتم تغيير ولاية العهد بين عشية وضحاها ليصعد إلى طليعة الصفوف جيل جديد سنًا وفكرًا. وسرعان ما انعكس ذلك التغيير على مواقف المملكة الخارجية والتى تغيرت لتكون أكثر حسمًا تجاه إيران وحلفائها فى المنطقة، فإذا بالسعودية تتدخل عسكريًا لحسم الوضع فى اليمن وكذلك تلوح بالتدخل فى سوريا ما لم يتم حسم القضية، كما قطعت السعودية مساعداتها أخيرًا عن لبنان كرد سياسى لممارسات اعتبرتها ضد مصالحها. السعودية والتى لم تكن لاعبًا عسكريًا بشكل مباشر فى المنطقة أعلنت العام الماضى عن قوة عربية مشتركة وكذلك عن تحالف إسلامى لمحاربة الإرهاب، فيما توسعت بشدة فى تدريب وتسليح جيشها.
على الصعيد الاقتصادى، واجهت السعودية عجزًا كبيرًا فى الموازنة وصل لقرابة ١٠٠ مليار دولار فى العام الماضى وهو ما تطلب إجراءات اقتصادية صارمة. تلك الإجراءات شملت رفعًا لأسعار الطاقة وخفضًا لمخصصات المؤسسات المختلفة والتوسع فى سعودة الوظائف، بالإضافة لاستعادة جزء من استثمارات المملكة فى الأسواق العالمية وطرح سندات حكومية للاقتراض فى وقت تصاعد فيه العجز وانخفض احتياطى النقد الأجنبى. بجانب تلك الإجراءات السريعة، شرعت الحكومة فى تطبيق برنامج تحول اقتصادى لإعداد الاقتصاد لعصر ما بعد النفط بالاعتماد على القطاع الخاص كقاطرة للتنمية وتوسيع سوق المال وطرح جزء من شركة أرامكوا والتى تعتبر أكبر شركة لإنتاج النفط عالميًا بل أيضا أكبر شركة من حيث القيمة والتى قد تصل لعدة تريليونات من الدولارات مما يتيح للمملكة تأسيس صندوق سيادى بقرابة ٢ تريليون دولار.
بلا شك أن السعودية تشهد تحولاً كبيرًا يفوق توقعات غالبية المحللين وهو ما يشير إلى الدور الكبير الذى تلعبه السعودية فى المنطقة أخيرًا. ويمكن تحديد عاملين رئيسيين وراء هذا التحول. الأول هو تغير السياسة الأمريكية تجاه المنطقة. فبعد عقود من الإمساك بأوراق اللعبة الأساسية، تقلص الدور الأمريكى فى المنطقة أخيرا بل وبدا واضحًا رغبة أمريكا فى تغيير استراتيجى فى المنطقة بإتمام الاتفاق النووى مع إيران رغم اعتراضات السعودية. كما أن أمريكا فى عهد أوباما ليست لديها الرغبة فى التدخل عسكريًا فى صراعات المنطقة الملتهبة. أما السبب الثانى فيعود للانخفاض الحاد فى أسعار البترول والذى جاء بعد فترة ممتدة من الأسعار المرتفعة. ذلك الانخفاض كان حادًا وكذلك استمر لفترة طويلة حتى إن الأسعار مازالت عند ثلث مستواها منذ عامين.
التغيرات التى طرأت تجعل السعودية اليوم تختلف عن السعودية التى اعتدنا عليها لعقود. وسيكون هناك أثر لتلك التغيرات على مصر بعدة أوجه. الأول، أن السعودية ستقود المنطقة أو على أقل تقدير ستشارك مصر زمام القيادة ولن تكتفى بالمقعد الخلفى مستقبلاً. الثانى، أن أولويات السعودية فيما يخص مواجهة تمدد النفوذ الإيرانى فى المنطقة ستطغى على باقى القضايا بما فيها قضايا السياسة الداخلية. الثالث، أن السعودية لن تقدم منحًا سخية لمصر مرة أخرى بل سيكون دعمها فى صورة استثمارات فى مشروعات مجدية ماليًا أو قروض مضمونة العائد بعد انخفاض أسعار البترول وانحصار الفوائض المالية. الرابع، أنه سيكون على الحكومة المصرية المضى قدمًا بتطبيق إجراءات اقتصادية تقشفية صارمة أسوة بما تفعله السعودية لتقليص عجز الموازنة وهو ما يعنى المزيد من التضخم والتدهور للوضع الاجتماعى.
وقد تكون زيارة الملك سلمان الأخيرة لمصر دليلاً على ذلك التحول. فتلك الزيارة التى تعتبر تاريخية من حيث مدتها وبرنامجها، بالإضافة لتوقيع العديد من الاتفاقات بين البلدين توضح توسع النفوذ السعودى بشكل كبير. فعادة ما تأخذ الخلافات الحدودية عقودا لتسويتها إلا أن الخلاف على جزيرتى تيران وصنافير تمت تسويته بشكل غير تقليدى. كما تحول الحديث لتهديدات إيران للمنطقة وأهمية التحالف بين مصر والسعودية فى وقت تواجه فيه مصر مشاكل سياسية وأمنية واقتصادية ولا تحتاج لمواجهة أخرى مع إيران سواء بشكل مباشر أو بالوكالة. أما اقتصاديًا، فكان متوقعًا الإعلان عن دعم مباشر لتعزيز الاحتياطى والدفاع عن الجنيه وهو ما لم يحدث. وعلى الرغم من التوقيع على اتفاقات عدة من شأنها أن تساعد على تدفق العملة الصعبة مستقبلاً مثل إنشاء صندوق مشترك للاستثمار واتفاق لتوريد مواد بترولية ودفعها آجلاً إلا أن السوق الموازية للعملة لم تتفاعل على الإطلاق مع ذلك وهو ما يعكس قناعة المتعاملين فى السوق على أن تلك الاتفاقات لن ينتج عنها تدفقات سريعة وأن عصر المساعدات الخليجية السخية قد ولى.
العلاقات بين مصر والسعودية قوية وممتدة لكن السعودية تتغير بشكل سريع سياسيًا واقتصاديًا ويتسع نفوذها إقليميًا بشكل كبير فى محاولة منها لمواجهة تمدد النفوذ الإيرانى. الدعم السعودى لمصر مهم جدًا ومما لا شك فيه أنه يمثل حجر الزاوية لمنع انهيار الاقتصاد المصرى الآيل للسقوط لكن ذلك الدعم لا يأتى مجانًا وبدأ يظهر أخيرًا أن تكلفته السياسية ليست قليلة مما يجعل من الحكمة إعادة النظر فى تصور إدارة الاقتصاد والاعتماد على حلول جذرية لإعادة تدوير عجلة الاقتصاد بدلاً من الدعم الخارجى الذى يلعب دور المسكن قصير الأجل لكن تكلفته السياسية وربما العسكرية طويلة الأجل.
عمر الشنيطى
15 - أبريل - 2016
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"
No comments:
Post a Comment