فاجأ رئيس الوزراء البريطانى مؤخرا العالم بالإعلان عن عزم الحكومة البريطانية على إصدار صكوك، وبهذا تكون بريطانيا أول دولة غير إسلامية تقوم بإصدار صكوك، وكذلك خطة الحكومة البريطانية لتحويل لندن لمركز عالمى للتمويل الإسلامى جنبا إلى جنب مع دبى وماليزيا. وقد أثار هذا الخبر ردود أفعال متضاربة، لكن هذا التوجه وما سيتبعه يستحق النظر بعمق لقطاع التمويل الإسلامى ودور لندن المستقبلى فيه وما يمكن أن نتعلمه من هذا التطور.
تصدر الحكومات أوراقا مالية للاقتراض من أجل تمويل احتياجاتها وقد يكون هذا الاقترض فى شكل سندات تقليدية أو سندات موافقة لأحكام الشريعة الإسلامية «الصكوك». السندات الحكومية التقليدية تقضى بإصدار أوراق مالية لجمع الأموال مقابل وعد برد أصل المبلغ بعد فترة زمنية محددة بالإضافة لدفع فوائد محددة عليه. يعتبر السند مديونية على الدولة ولكن يعطى للحكومة الحرية فى استخدام الأموال فى سد عجز الموازنة أو تمويل مشروعات أو غيرها، وبما أن السندات تمنح حامليها عوائد محددة دون مخاطرة أو دخول فى عمليات بيع وشراء فهى تعتبر مخالفة لأحكام الشريعة الاسلامية.
أما الصكوك فهى أداة مالية تستطيع من خلالها الحكومة جمع الأموال ولكن للصرف فى مشروعات محددة، ويترتب على ذلك مشاركة الممولين فى الربح والخسارة كالمضاربة أو الإجارة، أو الدخول فى عمليات بيع وشراء وتطوير كالاستصناع أو المرابحة، كما يلزم عدم استخدام الأموال التى تم جمعها لتمويل أنشطة تخالف الشريعة الإسلامية مثل الخمور والمقامرة وغيرها ولذلك تُعتبر الصكوك موافقة لأحكام الشريعة الإسلامية. من ناحية أخرى، إذا كانت من النوع الذى يتطلب المشاركة فى الربح والخسارة، فإن الصكوك لا تُعتبر مديونية على الدولة وهى ميزة كبيرة، خاصة للحكومات التى تعانى من مستوى دين حكومى مرتفع.
على الرغم من وجود اختلافات بين السندات والصكوك من الناحية القانونية والتعاقدية فإن العائد عليهما عادة ما يكون مقاربا وعادة ما يتم تسويقهما بنفس الطريقة ومن خلال نفس القنوات واعتبارهما أدوات تمويل بديلة، وهو ما قد يجعل الكثيرين لا يرون اختلافا حقيقيا بينهما فى التطبيق. وهذه المشكلة لا تقتصر فقط على الصكوك، بل أيضا تشمل البنوك الإسلامية وغيرها من أدوات التمويل الإسلامى. ولعل السبب وراء ذلك هو أن أدوات التمويل الإسلامى لم تظهر إلا فى العقود الأخيرة فى شكل «أسلمة» لأدوات التمويل التقليدى حتى تكون موافقة لأحكام الشريعة الإسلامية.
لكن بالرغم من هذه التحفظات فإن الكثير من المستثمرين المسلمين قد يفضلون أدوات التمويل الإسلامى لكونها متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية وهو ما أدى إلى نمو كبير فى هذا القطاع وخاصة الصكوك. فقد بلغ إجمالى سوق الصكوك العالمية ٣٠٠ مليار دولار بنهاية ٢٠١٢، أصدرت ماليزيا ثلثى هذا الرقم والباقى أغلبيته صدر فى الخليج. وتتوقع التقارير زيادة سوق الصكوك إلى ٩٠٠ مليار دولار بنهاية ٢٠١٧. إضافة إلى نمو قطاع البنوك الإسلامية مؤخرا بنسبة ٥٠٪ أسرع من نمو قطاع البنوك التقليدية. وهذا النمو الكبير يجعل من المتوقع وصول إجمالى الاستثمارات الإسلامية إلى حوالى ١٫٣ تريليون دولار فى ٢٠١٤.
ولعل هذا النمو الملحوظ هو ما جذب انتباه بريطانيا للعب دور محورى فى هذا القطاع الواعد والاستفادة من الثروات المتراكمة فى الدول الإسلامية، خاصة دول الخليج الغنية بالنفط، لتمويل احتياجات بريطانيا فى المستقبل وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء البريطانى على صفحته على الإنترنت عن إدراكه أن بريطانيا فى سباق عالمى من أجل مستقبلها الاقتصادى وأن عليها فتح مجالات عمل جديدة مثل التمويل الإسلامى للحفاظ على مكانة لندن كمركز مالى عالمى فى ظل منافسة عالمية شرسة لجذب رءوس الأموال. ومن الجدير بالذكر أن بريطانيا هى أكبر بلد غربى يحوى بنوكا إسلامية. كما أن بها ما يزيد على ١٦ جامعة تمنح درجات الماجستير فى التمويل الإسلامى مما يؤهلها للعب دور محورى فى هذا القطاع.
إذا كانت دولة غربية وعريقة اقتصاديا مثل بريطانيا تدرك حقيقة السباق الاقتصادى العالمى وأهمية تبنى أدوات التمويل الإسلامى بشكل منفتح لجذب رءوس الأموال من الدول الإسلامية ولعب دور محورى فى هذا القطاع الواعد، فمن الأولى أن تتبنى دولة عربية مركزية مثل مصر هذا التوجه.
وهناك العديد من العوامل التى قد تساعد مصر فى هذا الصدد. أولا: تراجع الوضع الاقتصادى العام منذ ٢٠١١ وحاجة مصر لفتح مجالات جديدة تستطيع المنافسة فيها بقوة. ثانيا: وجود طلب محلى على أدوات التمويل الإسلامى بسبب تفضيل البعض التعامل فيها لأسباب دينية. ثالثا: وجود إمكانية كبيرة لنمو هذا القطاع محليا حيث إنه لا يزال قطاعا ناشئا على الرغم من وجود بنوك إسلامية فى مصر منذ فترة طويلة. رابعا: وجود موارد بشرية برزت فى هذا المجال خاصة فى دول الخليج ولديها القدرة على تنمية هذا القطاع فى مصر.
الخلاصة أن قطاع التمويل الإسلامى يختلف عن قطاع التمويل التقليدى فى شكل المعاملات من الناحية القانونية والتعاقدية وإن كانت هذه الاختلافات لا تزال محدودة، فى نظر الكثيرين. ويشهد هذا القطاع مؤخرا نموا ملحوظا مقارنة بقطاع التمويل التقليدى بسبب الطلب المتزايد من العديد من المؤسسات والأفراد فى الدول الإسلامية، وهو ما دفع بريطانيا لإصدار صكوك لتمويل احتياجات الحكومة وكذلك تبنى خطة لتحويل لندن لمركز عالمى للتمويل الإسلامى. ولعل من الأولى أن تتبنى هذا التوجه دولة عربية مركزية كمصر حيث تتوافر فيها العديد من العوامل لنجاح هذا القطاع خاصة فى ظل وضع اقتصادى حرج تحتاج فيه مصر لقطاعات جديدة وواعدة تستطيع التميز فيها.
عمر الشنيطي
9 نوفمبر 2013
No comments:
Post a Comment