Saturday, May 16, 2015

شكوى الناس من ضيق الحال: حقيقة أم مبالغة؟

هناك موجة كبيرة أخيرا من الشكوى من ارتفاع الأسعار وصعوبة الحياة. تلك الشكوى لا تقتصر على محدودى الدخل بل إن الكثير من ميسورى الحال يشاركونهم فى الشكوى حتى إن بعض المديرين فى الشركات الخاصة والشركات متعددة الجنسيات يتحدثون بنفس النبرة. لذلك قد يكون من المفيد النظر للمؤشرات الاقتصادية على المستوى الكلى وكذلك مستوى الأفراد لمعرفة تطور القوة الشرائية الحقيقى أخيرا.
بداية يجدر بنا النظر لحجم الاقتصاد الكلى. كما يقاس حجم الشركة بإيراداتها والتى تعكس إجمالى ما تنتجه وتبيعه الشركة خلال عام، كذلك يقاس حجم الاقتصاد بإجمالى ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات خلال عام وهو ما يعرف بالناتج المحلى. وكلما زاد الناتج المحلى، كلما زاد حجم الاقتصاد حيث تزيد كمية السلع والخدمات المنتجة والقابلة للاستهلاك. لكن ما يهم هو النمو الحقيقى فيما ينتجه الاقتصاد من سلع وخدمات، بعد خصم التضخم، وليس الزيادة الاسمية فى حجم الاقتصاد والتى قد تنتج من ارتفاع الأسعار لكن لا تصاحبها زيادة حقيقية فى حجم السلع المنتجة.
فعائلة لديها قائمة من عشر سلع تستهلكها شهريا ستكون سعيدة بدخل ألف جنيه لو يستطيع شراء قائمة السلع، بينما ستكون فى غاية البؤس لو زاد دخلها عشرة أضعاف لكن هذا الدخل المرتفع اسميا عاجز عن شراء قائمة المنتجات الأساسية. فما يهم هو الناتج المحلى الحقيقى وليس الاسمى. فإذا نما الناتج المحلى ١٥٪ فى سنة بينما كان التضخم ١٠٪ خلال تلك السنة، فإن ذلك يعنى أن الاقتصاد الحقيقى زاد ٥٪ فقط. وكان الناتج المحلى الحقيقى يزداد سنويا بمعدل ٥ــ٧٪ فى العقد الذى سبق ثورة ٢٥ يناير لكن هذا النمو انخفض لمتوسط ٢٪ فى السنوات التى تلت ثورة ٢٥ يناير ثم ما لبث أن بدأ فى التعافى أخيرا ليقارب ٤٪ فى العام المالى الحالى.
ومن الجدير بالذكر أن تلك المعدلات مبنية على متوسط تضخم ١٠ــ١٢٪ سنويا حيث يقاس التضخم رسميا من قبل الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، لكن هناك دائما جدلا حول طريقة القياس. وعلى الرغم من تطور طرق القياس أخيرا إلا أن بعض الاقتصاديين يعتقدون أن نسبة التضخم الحقيقة قد تكون أعلى من المعدلات الرسمية بعدة نقاط مئوية. لذلك إذا كان النمو الحقيقى الرسمى فى حدود ٢ــ٤٪ سنويا باحتساب معدلات التضخم الرسمية، فإنه بناء على المعدلات غير الرسمية للتضخم، قد يكون النمو الحقيقى أقل من الصفر.
لكن ما يهم الفرد هو المتاح أمامه للاستهلاك وهو ما يعبر عنه إجمالى الناتج المحلى للفرد. فعند احتساب معدلات نمو دخل الفرد يؤخذ فى الاعتبار زيادة السكان والتى تبلغ نحو ١٫٧٪ سنويا. ولذلك فإذا أخذنا معدل النمو فى الناتج المحلى الرسمى وطرحنا منه التضخم الحقيقى والزيادة السكانية، فيتضح أن متوسط دخل الفرد الحقيقى فى الأعوام الأخيرة قد تناقص بشكل ملحوظ، وهو ما علقت عليه جريدة الايكونومست الشهيرة فى تقرير لها الصيف الماضى.
وهذا الكلام يتطابق مع الواقع. فراتب الموظف يزيد سنويا نحو ١٠٪ فى أغلب الشركات، بيما نسبة التضخم الرسمية فى السنوات الأخيرة تتراوح بين ١٠ــ١٢٪ والنسبة غير الرسمية أعلى بعض الشىء مما يشير إلى أن الدخل الحقيقى لقطاع كبير من الأفراد قد انخفض وبالتالى قوتهم الشرائية قد تناقصت عبر السنوات الأخيرة. قد يستثنى من ذلك بعض موظفى الحكومة والجامعات الذين حصلوا على زيادة كبيرة فى رواتبهم بعد الثورة لكن تلك هى النسبة الأقل، بينما النسبة الأكبر كانت الزيادة فى رواتبهم أقل من زيادة أسعار السلع والخدمات.
يعتقد البعض أن انخفاض القوة الشرائية يقتصر على محدودى الدخل فقط، لكن الأرقام تشير إلى أن الانخفاض ظاهرة عامة ضربت مختلف المستويات، بل إن النظرة العميقة تظهر أن العمال فى بعض الشركات قد استطاعوا من خلال الاعتصامات فى بداية الثورة الحصول على زيادات فى الرواتب لم يستطع المديرون الحصول عليها مما يجعل تضررهم بتناقص القوة الشرائية أقل. لكن يرد على ذلك بضعف رواتب العمال وصغار الموظفين لفترات طويلة وأن هذه الزيادات حتى لو بدت كبيرة، فإنها أقل القليل وجاءت متأخرة جدا. فى النهاية، تظل النتيجة أن القوة الشرائية بشكل عام قد انخفضت عبر السنوات الأخيرة وأن ذلك طال كبار وصغار الموظفين فى القطاع الخاص على حد سواء، مع استثناء الأغنياء وكبار رجال الأعمال والتى تشير التقارير لزيادة ثرواتهم رغم الاضطرابات بسبب زيادة قيمة الأصول المالية والعقارية.
لكن كبار الموظفين يختلفون عن صغارهم. فكبار الموظفين وأصحاب الدخول الكبيرة لديهم المقدرة على امتصاص أثر التضخم إلى حد كبير حيث إن جزءا من دخلهم يذهب للادخار والاستثمار والترفيه بأشكاله مما يجعلهم قادرين على تخفيض تلك البنود إذا ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية. لكن فى حالة صغار الموظفين، فإن الدخل يكاد يغطى البنود الأساسية من مأكل ومشرب ومواصلات وتعليم وصحة وإيجار ولا توجد مساحة لامتصاص التضخم مما يجعل تضررهم من التضخم كبيرا. كما أن الارتفاع الكبير فى أسعار العقارات فى السنوات الأخيرة قد جعل من الصعب على من لا يمتلك عقارا، فى أغلب الأحوال من صغار الموظفين، أن ينضم لفئة ملاك العقارات، كما يزيد من تكلفة الإيجار عليه بشكل كبير.
الخلاصة أن شكوى الناس ليست مفتعلة بل إنها حقيقية حيث ساهم النمو الاقتصادى الضعيف فى السنوات الأخيرة مصحوبا بزيادة معدلات التضخم والزيادة السكانية إلى انخفاض تدريجى لكنه ملحوظ فى متوسط دخل الفرد فى المجتمع. وقد انعكس ذلك على وضع الأفراد التى زادت دخولهم عبر السنوات الأخيرة بمستوى أقل من زيادة أسعار السلع والخدمات الأساسية مما أدى إلى تناقص قوتهم الشرائية. وهذا التناقص ضرب كبار الموظفين قبل صغارهم، فى وقت تجد فيه الشركات صعوبة فى الحفاظ على مستويات أعمالها ومعدلات ربحيتها مما يهدد سوق العمل بهجرة الكفاءات المدربة لأسواق المنطقة الأسرع نموا.
عمر الشنيطى
16 - مايو - 2015
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"

No comments:

Post a Comment