Sunday, October 19, 2014

التضخم..القنبلة الموقوتة

لا يتوقف الناس فى مصر عن الشكوى من ارتفاع الأسعار ولا ينطبق ذلك على محدودى الدخل بل امتد للطبقات الميسورة. لكن هل هذا الكلام حقيقى؟ للأسف نعم، وهو ما أكده الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء مشيرا إلى ارتفاع معدل التضخم الشهرى فى يوليو الماضى بنسبة ٣٫٣٪ وهو أعلى معدل له منذ منتصف ٢٠٠٨، بسبب رفع أسعار الطاقة، ثم استمر هذا الارتفاع فى شهرى أغسطس وسبتمبر لكن بمعدلات أقل، تقارب ١٪ شهريا.
ودائما ما يُسلط الضوء على التضخم حتى إن البنوك المركزية على مستوى العالم، والمنوطة بإدارة السياسة النقدية للتوزان بين الحد من البطالة والتضخم، دائما ما تضع استقرار الأسعار على رأس أولوياتها فيما يعرف باستهداف التضخم. لكن هل التضخم مهم لهذه الدرجة؟
فى كتابه «مبادئ الاقتصاد»، يشير بين برنانكى، المحافظ السابق للاحتياط الفيدرالى (البنك المركزى الأمريكى) أن تفاقم التضخم شديد الحساسية لما له من عواقب جمة:
الأولى: منظومة الأسعار: يؤدى التضخم إلى اضطراب فى منظومة الأسعار حيث يصبح من الصعب على المنتجين تحديد تكلفتهم بشكل دقيق مما يؤدى إلى تغيرات كبيرة فى مستوى الأسعار.
الثانية: الاحتفاظ بالنقود: حين يرتفع معدل التضخم، يشعر الأفراد بالانخفاض المتوقع فى دخولهم وثرواتهم ولذلك يفضلون التراجع عن الصرف تحسبا للمستقبل مما يؤدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادى.
الثالثة: توزيع الدخل: يؤثر التضخم سلبا على أصحاب الدخول الثابتة كأرباح الودائع مما يؤدى إلى فرض ضريبة غير مباشرة على المودعين فى البنوك والتى تقلل قيمة مدخراتهم بمرور الوقت بينما يستفيد من ذلك المقترضين من البنوك الذين تقل قيمة ما عليهم تسديده مستقبلا فيما يمكن وصفه بإعادة توزيع للدخل بين المودعين والمقترضين.
الرابعة: استثمار الشركات: مع ارتفاع معدلات التضخم، يصبح من الصعب على الشركات التخطيط على المدى الطويل لمستوى مبيعاتهم وتكاليفهم وكذلك استثمارتهم مما يؤدى إلى تراجع استثمار الشركات ومن ثم تراجع النمو الاقتصادى.

وبالنظر للحالة المصرية، فإن الاقتصاد يشهد موجة من التضخم كما رصدتها الأرقام الرسمية، لكن هذه الموجة ليست مفاجئة حيث إن الاقتصاد شهد ثلاثة تطورات رئيسية منذ الثورة كفيلة برفع معدلات التضخم:

الأول: أسعار الطاقة:
قامت الحكومة برفع أسعار الطاقة فى مطلع الصيف الماضى لخفض دعم المواد البترولية فى محاولة للسيطرة على عجز الموازنة المتصاعد منذ الثورة، وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات.

الثاني: عجز الموازنة:
مع ارتفاع عجز الموازنة، توسعت الحكومة فى الاقتراض المحلى من البنوك والمؤسسات المالية المحلية حيث إن المساعدات الخارجية التى تلقتها مصر فى العامين الماضيين والتى تبدو كبيرة لم تغط إلا جزءا محدودا من العجز. ومع ارتفاع حجم الدين المحلى، والذى قارب إجمالى الناتج المحلى، تدخل البنك المركزى بطباعة النقود واستخدامها لتمويل عجز الموازنة بشراء السندات فى الأساس حيث تضاعف تمويل البنك المركزى للحكومة أربعة مرات وزادت السيولة المحلية أكثر من ٤٠٪ مقارنة بمطلع ٢٠١١، طبقا لأرقام البنك المركزى. ومع ارتفاع السيولة، يصبح المعروض من النقود فى ازدياد أسرع من إنتاج السلع والخدمات مما يؤدى إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات.

الثالث: سعر صرف الدولار:
أدى اتساع الفجوة بين الصادر والوارد للاقتصاد من دولار بعد الثورة إلى زيادة الطلب على الدولار وقد استنزف البنك المركزى مليارات الدولارت للدفاع عن الجنيه، لكن لم يكن أمامه مفرا من تخفيض الجنيه وهو ما انعكس على زيادة أسعار السلع المستوردة، فى ظل اعتماد مصر على استيراد الكثير من السلع الأساسية. ومع خطة الحكومة الهادفة لخفض دعم المواد البترولية تدريجيا على مدى السنوات الثلاث القادمة، فإن الاقتصاد سيشهد موجات تضخم مستقبلية. كما أنه من المتوقع استمرار عجز الموازنة على مستويات مرتفعة لعدة سنوات والحاجة لتمويل الجزء الأكبر منه محليا مما يؤدى إلى توسع البنك المركزى فى تمويل عجز الموازنة بطباعة النقود وبالتالى زيادة التضخم. بالإضافة لذلك، قد تأخذ الفجوة بين الصادر والوارد من دولار فترة ليست بالقصيرة للتلاشى حتى تتعافى السياحة وتعود الاستثمارت الأجنبية بمعدلات مرتفعة مما يعنى استمرار الضغط على سعر صرف الجنيه.

ولعل هذه الأسباب هى ما تجعل توقعات المنتجين المستقبلية للتضخم مرتفعة وتدفعهم لرفع أسعارهم قدر الاستطاعة. لكن قدرة المنتجين على رفع أسعارهم لا توازيها قدرة المستهلكين على امتصاص ارتفاع الأسعار، خاصة محدودى الدخل والذى يشكل التضخم إفقارا مباشرا لقوتهم الشرائية الهزيلة. قد يتحدث البعض عن خروج الفقراء فى «ثورة جياع» ضجرا من سوء الأحوال وقد يشكك البعض فى واقعية ذلك لكن مما لا شك فيه أن استمرار ارتفاع الأسعار يؤدى إلى عدم استقرار سياسى واجتماعى يصعب التكهن بنتائجه.
ومع قدرة البنك المركزى المحدودة على السيطرة على التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة وسعر صرف الدولار، حيث إنها ارتفاعات فى سعر المنتجات المعروضة وليس مستوى الطلب، وكذلك اضطرار البنك المركزى لتمويل عجز الموازنة بطباعة النقود لعدة سنوات، فعلى الحكومة العمل باستماتة على جذب المساعدات والقروض الخارجية وهو ما سينعكس سريعا على ثبات سعر صرف الدولار وتمويل جزء أكبر من العجز خارجيا وبالتالى خفض توقعات التضخم المستقبلية لتتأثر فى الأساس برفع الدعم اللازم لخفض عجز الموازنة.

الخلاصة أن التضخم شديد الخطورة لما له من آثار اقتصادية واجتماعية عديدة. لكن رفع أسعار الطاقة وتفاقم عجز الموازنة وارتفاع الدولار قد أنتجوا موجة تضخم ملحوظة، بينما البنك المركزى فى موقف لا يحسد عليه لقدرته المحدودة على السيطرة على التضخم الناتج عن رفع أسعار الطاقة وارتفاع الدولار. ولذلك من, الضرورى أن تسعى الحكومة سريعا على استعادة المساعدات والقروض الخارجية بكل السبل لرفع الضغط عن الجنيه وخفض الاقتراض المحلى والحد من طباعة النقود لكبح جماح التضخم وتجنب ما لا يحمد عقباه من آثار اجتماعية وسياسية نتيجة ضجر الناس من ارتفاع الأسعار.



عمر الشنيطى
18 - أكتوبر - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق" و "موقع CNN  بالعربية"

Saturday, October 4, 2014

المستثمر الخليجى والدراما المصرية

ساهمت الدراما المصرية عبر العقود الأخيرة فى نشر الثقافة المصرية فى منطقة الخليج حتى أصبحت اللهجة المصرية مفهومة بشكل سهل وأصبحت النكات وقفشات الأفلام المصرية محل تكرار من الأشقاء فى الخليج.
لكن الدراما المصرية قد ساهمت فى نقل صورة غير مكتملة للمصريين عن المستثمر الخليجى. فالمتابع عبر العقود الأخيرة يجد أن الدراما المصرية عملت على رسم صورة ذهنية عن المستثمر الخليجى على أنه عجوز شديد الثراء وغير منطقى فى صرف الأموال. كما تشير الصورة التى يرسمها الإعلام المصرى مؤخرا إلى أن المستثمرين الخليجيين من أكبر المستثمرين فى مصر وأنهم ينتظرون فرص الاستثمار فى مصر بفارغ الصبر.

ونظرا لأهمية الدور المرتقب للاستثمارات الخليجية فى السنوات القادمة لانتشال الاقتصاد من الركود، فمن الضرورى رسم صورة صحيحة للمستثمر الخليجى بعيدا عن الصورة الذهنية المضللة. ويمكن فى هذا الصدد التعليق على خمسة ملامح رئيسية للصورة الذهنية السائدة:

أولا: المستثمرون الخليجيون لديهم ثروت طائلة
هذا تصور حقيقى حيث أدت عقود من تصدير البترول إلى تراكم ثروات طائلة فى دول الخليج سواء على مستوى العائلات المالكة أو المؤسسات السيادية أو الشركات العائلية. فعلى الرغم من عدم وجود بيانات دقيقة عن ثروات العائلات المالكة إلا أنه لا يمكن إغفال حجم ثرواتهم خاصة فى ضوء الأخبار المتناثرة عن شراء قصور وشركات ونوادى رياضية فى مختلف أنحاء العالم. كما أن مؤسسات الاستثمار السيادية الخليجية لديها مئات المليارات من الدولارات من عائدات النفط، فجهاز الكويت للاستثمار لديه ما يعادل ٥٠٠ مليار دولار بينما جهاز أبوظبى للاستثمار لديه قرابة تريليون دولار، طبقا لما يتم إعلانه. كما أن الشركات العائلية الخليجية الكبرى تمتد استثماراتها، التى تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، عبر العالم.

ثانيا: المستثمرون الخليجيون أكبر المستثمرين فى مصر
على عكس ما يتصوره البعض، فإن المستثمرين الخليجيين ليسوا أكبر المستثمرين فى مصر حيث إن الاستثمارات الأجنبية فى مصر، البالغة ٥٠ مليار دولار فى فترة ٢٠٠٢-٢٠١١، جاء ما يزيد على ٨٠٪ منها من شركات أوروبية أو أمريكية والتى ركزت على قطاع البترول فى الأساس. لكن بعد الاضطرابات السياسية فى السنوات الأخيرة، فإن الاستثمارت الغربية قد تراجعت مقابل التوقع بزيادة الاستثمارت الخليجية خاصة على مستوى المؤسسات السيادية التى يرجع إقبالها لأسباب سياسية فى الأساس.

ثالثا: المستثمرون الخليجيون فى انتظار الاستثمارفى مصر بفارغ الصبر
الاقتصاد المصرى يتميز بعمق الاستهلاك المحلى ووجود فرص استثمارية متنوعة فى قطاعات دفاعية تتحمل الأزمات الاقتصادية مما يجعل الاستثمار فى مصر محل اهتمام دائم للمستثمرين الخليجيين الذين كانت تجاربهم الاستثمارية فى مصر إيجابية فى السنوات التى سبقت ثورة ٢٥ يناير. لكن من ناحية أخرى، فإن المستثمرين الخليجيين الكبار يعرض عليهم يوميا عشرات الاستثمارت المجزية فى كل أنحاء العالم، فى عصر يتسم بالتنافس الشرس بين الدول المختلفة لجذب المستثمرين، ولذلك فإن الاستثمار فى مصر سيخضع للمقارنة مع فرص فى دول أخرى. ومن الضرورى الإشارة إلى الاختلاف بين المؤسسات السيادية والشركات العائلية، فالمؤسسات الخليجية السيادية ومن خلفها العائلات المالكة الحليفة لمصر ستكون أكثر إقبالا على الاستثمار لدعم استقرار النظام فى مصر. أما الشركات العائلية، فإن معيارها الأساسى هو العائد المتوقع على الاستثمار مقابل المخاطر المتوقعة مما يجعل إقبالها أقل مما يروج له، خاصة فى ظل العديد من المشاكل التى تواجهها هذه الشركات فى مصر ولذلك ضمان استثمارها غير واقعى دون حل مشاكلها المعلقة وإعطائها مزايا كبيرة تدفعها على التوسع فى الاستثمار.

رابعا: المستثمرون الخليجيون يضخون كامل استثماراتهم من رءوس أموالهم
المستثمرون الخليجيون شأنهم كغيرهم لا يقومون بتمويل كامل مشروعاتهم من ثرواتهم الخاصة، بل يعملون على تنويع مصادر التمويل بشكل يرفع العائد المتوقع على الاستثمار. ويبرز فى هذا الشأن الاعتماد الكبير على الاقتراض سواء من خلال مؤسسات ائتمان الصادرات الأجنبية، التى تمول المشروعات التى تقوم شركات بلادها بتنفيذها خارجيا، أو من خلال الاقتراض المحلى. ولذلك فإن الاستثمارت الخليجية مرهونة بتحسن الوضع السياسى والأمنى لتشجيع مؤسسات إئتمان الصادرات الأجنبية لتمويل المشروعات الخليجية فى مصر وكذلك مرهونة بتوافر التمويل من البنوك المحلية بفائدة مجزية وهو ما يمثل تحديا كبيرا فى ظل التوسع فى تمويل عجز الموازنة والمشروعات القومية الكبرى عن طريق الاقتراض المحلى.

خامسا: المستثمرون الخليجيون بسطاء فى تفكيرهم وقدراتهم الاستثمارية
ولعل ذلك هو التصور الأكثر سذاجة واستخفافا. فربما لم تسنح الفرصة للأجيال الأولى من المستثمرين الخليجيين للحصول على تعليم جيد أو لتعلم لغات أجنبية، لكن هذا الوضع تغير بشكل ملحوظ فى العقدين الأخيرين. فالأجيال الجديدة فى الخليج سواء فى العائلات الحاكمة أو العائلات التجارية الكبرى أغلبهم تلقوا تعليمهم فى أمريكا أو أوروبا. ومع هذا التغير يأتى انفتاح المؤسسات السيادية والشركات العائلية الخليجية على الاستثمار فى كل أنحاء العالم والاستعانة بمديرين تنفيذيين من جنسيات متعددة وذوى خبرات عالمية وكذلك الاستعانة بشركات استشارات عالمية لمساعدتهم على إدارة استثماراتهم بشكل متميز قد لا تستطيع الشركات المصرية توفيره.

الخلاصة أن الاستثمارات الخليجية من المتوقع أن تلعب دورا كبيرا فى مساعدة الاقتصاد المصرى على الخروج من الركود، لكن الدراما المصرية، على الرغم من نجاحها فى العقود الأخيرة فى نشر الثقافة المصرية فى منطقة الخليج، نشرت صورة ذهنية مضللة فى كثير من ملامحها عن المستثمر الخليجى. فالأجيال الجديدة من المستثمرين الخليجيين أصبحوا أكثر كفاءة فى تمويل استثمارتهم وأكثر انفتاحا على الأسواق العالمية ولديهم مديرون ومستشارون ذوى خبرات عالمية مما يمكنهم من إدارة استثماراتهم الضخمة بشكل فعال ويجعل من الضرورى على من يروج للاستثمار فى مصر رسم صورة ذهنية صحيحة عنهم والعمل على تسوية المشاكل العالقة معهم وتوفير مزايا نسبية جاذبة لدفعهم على التوسع فى الاستثمار فى مصر.


عمر الشنيطى
4 - أكتوبر - 2014
نُشر هذا المقال فى "جريدة الشروق"